خطبة الجمعة: (فسيكفيكهم الله) وفيه حديث عن الثورات

[القوي بالله]

إنَّ الحمدَ للهِ, نحمَدُه ونَستعينُه, ونَستغفرُه ونَتُوب إليه, ونَعوذُ بالله من شُرور أَنفسِنا, ومن سَيِّئَاتِ أعمالنا, من يهد الله فلا مضِلَّ له, ومن يضلِل فلا هادي له, وأَشهَد أَن لا إله إلا الله وَحدَه لا شَريك لَه, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورَسُولُه صَلّى الله عليه وسَلّم تسليمًا كثيرًا.
أيها الناس, اتقوا الله تعالى حقّ التقوى, اتقوا ربكم الذي إليه ترجعون, اتقوا ربكم الذي لا بُدَّ لكم من لقائه, ولا منتهى لكم دونه, اتقوا ربّكم الرقيب عليكم, الذي يحصي عليكم أعمالكم, ثم يجازيكم بها, فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حقّ التقوى, -(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)-.
أيها الموحدون, المتبرئون من الشرك وأهله, أيها الإخوة في الله, آيات عظيمة في كتاب الله, طوبى لمن تدبرها وفهمها وعمل بما فيها, وجعلها نظام, جعلها دستوره في هذه الدنيا, يوم يلتفت الناس يمنة ويسرة وهو قد هداه الله, ودلّه على الصراط المستقيم, يقول ربنا جلّ وعلا في سورة الزهراء الكبرى: -(وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)- ما أكثر ما يقال هذا الكلام, في كلّ زمان وفي هذا الزمان, ليس بالضرورة أن تتهوّد فاليهود لا يريدون منك أن تتهود, والنصارى يحتقرون هؤلاء الذين يتبعونهم, وإن تنصروا, ولكنهم يريدون منك أن تتبع ملّتهم -(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)- الملّة بمعناها الواسع أن تقلدهم وأن تكون تابعا لهم, كونوا هودا أو نصارى تهتدوا اليوم يقال لنا هذا كثيرا, في الصحف, في الإعلام, في كلّ مكان, من أناس يزعمون الدعوة, ومن أناس منافقين صرحاء, بل ما قامت هذه الثورات وهذا الغليان إلا يريدون ملّة النصارى, بالله عليكم ماذا يطلبون, هل شممتم منهم رائحة التوحيد, والغضب لله, والبراءة من الشرك وأهله, هل شُمّت منهم هذه الرائحة, أو سمع لهم قول, والله, والله, إنّهم لم يرفعوا بذلك رأسا, ماذا يريدون, ماذا يطالبون, يريدون ملّة اليهود والنصارى, يريدون الديمقراطية, تعبيد الشعب للشعب, يريدون الحرية الدينية حرية الردة والكفر بالله, يريدون الرأس مالية, يريدون أن نتبع اليهود والنصارى في كلّ شيء, -(وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)- نعوذ بالله من أيام الهرج, نعوذ بالله من أيام الفتن تخف فيها الأحلام وتضعف فيها العقول, ويستخف فيها الناس, طوبى لعبد تجنبها, حتى تنجلي عمّا تنجلي, طوبى لعبد أقبل على عبادة ربه, فالعبادة في الهرج كهجرة إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذن الدعاة كثر -(وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)- تكونون على هداية, تكونون مثل العالم, اتبعوهم, قلدوهم, رددوا أفكارهم, تهتدوا قال الله, ربّنا وإلهنا, وخالقنا, اجتبانا وهدانا للتوحيد, ودلّنا على هذا القرآن وشرفنا به, قال ربنا لا نبغي عنه بدلا ونعوذ بالله أن تزيغ قلوبنا, قال الله يلقننا الرد عليهم: -(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)-
كل من دعاك إلى ملّة سواء كانت حق أو باطل كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب حتى ولو كانت حقا فملّة إبراهيم أحسن وأوضح ، وإن كانت باطلا فالأمر واضح, أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة, -(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)- قال رجل لابن عباس: أنت على ملّة علي أو عثمان؟ قال: "أنا على ملة إبراهيم ودين محمد صلى الله عليه وسلم" -(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)- ثم كثر من يدعي ملّة إبراهيم فقال الله: -(حَنِيفاً)- مخلصاً, مستسلما لله, بقي طائفة تدّعي أنّها من أهل التوحيد, وأنّهم لا يحبون الأوثان ولا عبادة القبور, ولا يزورونها قال الله: -(وَمَا كَان مِنَ المُشْرِكِين)- من لم يجمع بين الأمرين, الاستسلام لله والانقياد, والبراءة من الشرك وأهله فليس على ملّة إبراهيم, إبراهيم بريء منه -(حَنِيفاً وَمَا كَان مِنَ المُشْرِكِين)- عندها اتضح الصراط اتضح الأمر قولوا لهم هذا الكلام, افرحوا بملّة إبراهيم, تفقهوا في ملّة إبراهيم, هي والله الهداية -(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)- كان متبرءا من الشرك وأهل الشرك, لا يدافع عنهم, لا يعذرهم, لا يحبهم, يبغضهم أشدّ البغض.
ثم قال الله ملقنا لنا: -(قُولُوا )- وفي هذه الآية الإيمان بأركانه وبمفهومه, بمعناه, قول, وعمل, واعتقاد, كل الثلاثة في هذه الآية, وفيها تسويد لوجوه المرجئة والجهمية التي أضلت الناس قال الله: -(قُولُوا)- هذا القول, قال بعض السلف: "ينبغي لكل احد أن يعلم هذه الآية أولاده وزوجته وأهل بيته حتى يموتوا على الإسلام" -(قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)- هذا اعتقاد جازم وقول مصرح في الملأ, بالله عليكم نترك هذا الدين؟ -(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)- هذا الدين الذي جاءت به هذه الكوكبة من صفوة خلق الله وإخوانهم من الأنبياء نتركه لملّة اليهود والنصارى, للديمقراطية والحرية والخرافات, نحن نفتخر أنّا عبيد لله ولذلك قال الله بعد ذلك مبينا العمل قال: -(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)- هذا العمل مع القول مع الاعتقاد -(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)- خاضعون, عابدون, لا نريد شعبا يحكم الشعب, نريد الشعب أن يُحكم بحكم الله, لا نريد الحريات, حرية الردة والكفر لا, نريد التعبيد لله, نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربّ الأرض والسماء جل وعلا, -(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)- مستسلمون, منقادون لأوامره ونواهيه, فرحون بذلك قال الله يخاطب عبيده حقا, يوم يلتفت الناس إلى ملّة اليهود والنصارى يشرفنا بهذا الكلام: -(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)- هذا القرآن هو الشرف العظيم, قال الله: -(فَإِنْ آَمَنُوا)- جميع هؤلاء -(بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)- وفي هذا كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب وله عليّ فوائد عظيمة "وفي هذا ملاطفة الخصم, ومداراته, دون التقارب معه في هذه الأمور, -(فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)- وفي هذا أيضا الرد على المرجئة لأن إيمان المرجئة ليس هذا الإيمان, ليس فيه عمل, قاله الشيخ محمد: التصريح بأن الإيمان هو العمل والتسليم والانقياد, وفي هذا مسألة عظمى أن نعرف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لأنّ كلّما عرفنا ذلك أكثر وعملنا به أكثر كان نصيبنا من الهداية أكثر, إلى يوم القيامة, إن آمنا بمثل ما آمن به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد اهتدينا ولهذا أيّها الإخوة لا ينصب للناس قدوات ولا أحد إلا محمد وأصحابه صلى الله عليه وسلم, ثم من تبعهم بإحسان, لو خسرنا الناس كلّهم, لو خسرنا التخليط كلّه فيما بيننا وبين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما خسرنا, لأنّ الله جعلهم هم النموذج -(فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)- طالب العلم يجب عليه أن يتعلم الآثار والوحي حتى يؤمن ويتعلم ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى يهتدي, الداعي كذلك, المجاهد كذلك المحتسب كذلك, المتعبد كذلك, كلّ الناس, يا لهم من نموذج, -(فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)- ثم قال رب العالمين, علاّم الصدور, -(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ)- لم يقل وإن تأوّلوا, لم يقل وإن أضلوا, لأن ملة إبراهيم واضحة وضوح الشمس, ما يتركها أحد إلا متولي إلا مُشاقّ, معاند, أنصفناه, وبيّنا له, فإن لم يؤمن فقد تولى سبحان الله! رب العالمين ما قال فإن تأوّلوا, فإن أخطئوا, فإن أضلوا, فإن ضُيّعوا, فإن اتّبعوا, قال: فإن توّلوا, ثم قال: فإنما للحصر, -(فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ)-
مشاقّة, جدل, معاندة, خصومة, كبرياء, إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه, وثم جاءت البشارة الكبرى من ربّ العالمين لأهل التوحيد خاصة, لأهل ملة إبراهيم قال الله: -(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ)- أبشر، خصمهم الآن ليس أنت ولا أصحابك ولا أتباعك إلى يوم الدين, خصمهم رب العالمين, أبشر بكفاية الله لك, أبشر بانتقام الله منهم, أبشر بنصرة الله إياك, يا لها من كلمة, يا لها من كلمة مرعبة لمن تولى عمّا كان عليه محمد, ليعرف من هو خصمه الآن, -(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ)- يكفيكهم الله, بأسباب كثيرة, إمّا أن يسلط عليهم أسدا من أسود التوحيد يفضحهم ويصيح بهم في العامة حتى يفتضحوا ويذلوا, وإمّا أن يسلط عليهم إمام عدل يقيم فيهم حكم الله, وإمّا أن يسلط عليهم الفرقة والشتات ويضرب قلوب بعضهم ببعض وكفاية الله لا حدّ لها, ولكن هذه بشارة لا تجزع عليهم, لا يضيعون أوقاتك, استمر في طريقك, -(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)- سميع للأقوال, عليم بذات الصدور, والصادق والكاذب, والمخادع, والمداهن, والمنافق -(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)- ثم قال الله لنا حتى نجد برد اليقين بهذا الدين: -(صِبْغَةَ اللَّهِ)- هذا الدين هو صبغة الله, من أحبه وأقبل عليه صبغه هذا الدين أحسن صبغة, في قلبه, في خلقه, في وجهه, في عمله, في قوله, في كلّ شيء, صبغة الله ليست صبغة اليهود والنصارى والوثنيين وعباد القبور ومن دافع عنهم وأحبهم, صبغة الله, ألا تفرحوا بها, -(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً)- من أحسن من الله صبغة, ونحن له عابدون, نرفع بذلك رؤوسنا, وأصواتنا, إن فرحوا بعبادة الأولياء والأنبياء واليهود والنصارى,-(وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)- عابدون له جلّ وعلا.
اللهم لا تُزع قلوبنا بعد إذ هديتنا, اللهم ألزمنا صبغتك, وجملنا بصبغتك يا رب العالمين, -(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً)- اللهم من تولى عن ملّة إبراهيم فاكفنا إياه بما شئت وقد وعدتنا ذلك وأنت لا تخلف الميعاد اللهم اكفنا إياه, اللهم بصرنا يا رب العالمين, اللهم نوّر بصائرنا, وفقهنا في دينك, اللهم أحيينا على التوحيد الخالص, والسنة المحضة, وفقهنا فيهما وثبتنا عليهما, عليها نحيا و عليها نموت وعليها نلقاك يا رب العالمين, يا حيّ يا قيوم, وأنت حسبنا ونعم الوكيل, اللهم لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين, اللهم إن وكلتنا لأنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضيعة, وإلى هلكة, وإلى ردة وإلى فساد اللهم ثبتنا واعصمنا يا رب العالمين, اللهم إنّا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا, منها نؤتى, اللهم نعوذ بك من هذا الثغر العظيم, من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, اللهم حصّنا بتحصينك, اللهم اعصمنا بعصمتك, اللهم احمنا بحمايتك, اللهم ثبتنا بتثبيتك, يا حيّ يا قيوم, لا حول ولا قوة إلا بك وأنت حسبنا ونعم الوكيل