منتدى السياحة و المقانيصرحلات وصور و مقاطع أفلام للصيد وستجد صور الغزلان والأرانب والصقور و رحلات سفاري ورحلات ومكشات وقناصة السودان تنزانيا جنوب افريقيا الصمان الطيور المهاجرة
الشعراء والذئب
رحلات وصور و مقاطع أفلام للصيد وستجد صور الغزلان والأرانب والصقور و رحلات سفاري ورحلات ومكشات وقناصة السودان تنزانيا جنوب افريقيا الصمان الطيور المهاجرة
رسمَ الشعرُ العربيُ القديمُ بامتياز أشكال الصراع المختلفة التي عاشها الإنسانُ العربيُّ منذُ وجد نفسه على هذه الأرض ؛ من صراعٍ بينَ الإنسان والكائنات المختلفة التي تحيطُ به ، إلى صراعٍ بين المخلوقات كلها ـ بما فيها الإنسان والطبيعة ، إلى صراعٍ ثالثٍ بين الإنسان وأخيه الذي يقاسمه أسباب الحياة، وصولاً إلى صراعٍ لا يمكن للمرء أن يخرج منه سالماً ـ إن كان قد أتيح له ذلك في الأشكال السابقة ـ
إنّه الصراع مع البيئة ، وقد لا نجد شاعراً عربياً إلا وعبر عن ذلك ؛ ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر عَبيدُ بن الأبرص الذي رأى بنظرة تشأمية جاهلية أن الموت الوارث الوحيد للأرض حين قال في معلقّته واصفاً أطلال الديار :
وبُدلت من أهلها وحوشاً
= وغيّرت حَالها الخطوبُ
أرضٌ توارثها شَعوبٌ
= وكل من حَلّها محروبُ ([1])
ومنهم لبيد بن ربيعة رضي الله عنه الذي قال :
وما الناس والأهلونَ إلا ودائعٌ
= ولا بُدّ يوماً أن تُردَّ الودائِعُ
ممّا دَفَع نفراً من الشعراء ـ أمامَ إحساسهم بالعجزِ حيال خصمٍ لا يُقهر ـ إلى "الرغبة في التشيّؤ لعل الشاعِرَ يُريحُ روحَهُ المعذَّبة ، وعقلَهُ المُرهق من مرارة الإحساس وعناءِ التفكير والوعي ، وإلا فما معنى قول تميم بن مقبل :
ما أطيبَ العيش لو أن الفتى حجرٌ
= تنبو الحوادثُ عنهُ وهو مَلموم
إنّها الرغبة في ( التشيؤ الصلب ) تحديداً ، فإذا أصابته أحداثُ الدهرِ نبت عنه دونَ أن تصيبه بأذى ([2])".
ولو عُدنا إلى الشكل الأوّل من أشكال الصراع ، أعني صراع الإنسان مع المخلوقات المحيطة بهِ لوجدنا أن للذئبِ حضوراً لافتاً ، ومتنوّعاً في الشعر المُعبّر عن ذلك ، حضوراً يختلفُ باختلاف الشاعِرِ وتكوينِهِ وشجاعتِهِ وحقبتِهِ التاريخيّة وظرفِهِ الاجتماعي وغيرها من العوامل الذاتيَة والموضوعيّة !
فذئبُ الشنفرى لا يشبّه ذئبَ البُحتري إلا قليلاً مع أنّ الثاني أحدُ أحفاد الأوّل . وذئبُ الفرزدق يكادُ لا يمت بصلة إلى ذئب مالك بن الريب وذئبُ كعب بن زهير يختلفُ كثيراً عن ذئبِ حميد بن ثور الهلالي ؛ مع أن الشاعرين عاشا المرحلة نفسها وتوفيّا بعد منتصف القرن الأوّل الهجري على الأرجح ؛ وأزعمُ أن الذئبَ نفسه لو بَرز لشاعرين مُبدعين ؛ فسنرى صورتَهُ عند أولهما لا تماثِلها عند ثانيهما !
فهل كان حضور الذئب في الشعر العربي القديم حضوراً عاديّاً ؛ كأحدِ مفردات البيئة ، التي لا بدّ للشاعِرِ من تداولها هل كان مادةً يمتحن الشعراءُ قرائحهم في وصفها ، ضمن باب وصف الطبيعة فحسب ؟ هل كان مُجرّد غرضٍ من أغراض القصيدة الطويلة كالوقوف على الأطلال ووصف الناقة وصولاً إلى غايات أخرى ؛ هذا إذا قبلنا بمفهوم الأغراض نفسه في شعرنا القديم ؟ أما شهدت صورةَ هذا المخلوق الشجاع المرهوبِ تبدلاً وتطوراً في شعرنا أم أنها ظّلت على حالها لمئات السنين ؟ أما تحوّل حضور الذئب من حضورٍ ماديٍّ فيزيائيٍ إلى حضور رمزي ؟
كل هذه الأسئلة وغيرها يمكن أن نصلَ إلى أجوبةٍ فيها من خلال دراسة مجموعة من المشاهد الشعريّة أو اللوحات الخلاّبة التي قَدّمها الشعراء العرب وكانَ الذئب بطلها .
*المرقش الأكبر ([3]) والذئب :
المرقّش الأكبر شاعرٌ جاهليٌ فحل ، شعرُهُ من الطبقة الأولى وقد ضاع معظمُه ، عُرِف عَنهُ أنّه من متّيمي العرب وعشّاقهم وفرسانهم الشجعان ، كان لَهُ موقعٌ في بكر بن وائل وحروبها مع بني تغلب ، وبأس وشجاعة ونجدة وتقدّم في المشاهد ، ونكاية في العدو وحسن أثر ([4]).
أحبّ المرقّش امرأةً تدعى أسماء حُبّاً شديداً ، فحَفل شعرُهُ بمظاهر هذا الحُب ، التي قدّمته رقيقَ الحاشية صادقاً مولعاً بالطبيعةِ ومشاهِدها ، حتى الأوابد منها والوحوش ؛ تزوّجت أسماءُ رجلاً من بني مُراد ، فمرضَ المرقّشُ زمناً ، ثُمَّ قصَدَها فماتَ في حَيّها ، قيلَ نحو سنة 75 قبل الهجرة = نحو 550 للميلاد ([5]).
وفي قصيدةٍ يفتتحها المُرقّش الأكبر بالوقوفِ على أطلال أسماء هذهِ وقد غادرت ناعياً وحشةَ المكانِ ، وتبدّل حالِه وقسوةَ العيش فيه يقدّم لنا صورةً أخّاذة لزيارة الذئب :
ولمّا أضأنا النار عِنْدَ شوائنا
= عرانا عليها أطْلَسُ اللون بائسُ ([6])
نبذتُ إليهِ حُزَّةً من شِوائنا
= حياءً وما فُحشي على مَنْ أُجالسُ ([7])
فآضَ بها جذلانَ ينفُضُ رأسَهُ
= كما آبَ بالنهبِ الكميُّ المحُالِسُ
لقد ترك الشاعِرُ تلك الأطلال ومنزل الضنك كما عَبّر في قصيدته تلك :
ومنزلُ ضنكِ لا أريدُ مَبيتَهُ
= كأني بهِ من شدّة الرَّوعِ آنِسُ
وانطلق على ناقتِهِ في ليلٍ موحشٍ تصاعدَت فيه أصواتُ البوم كالنواقيس :
وتسمَعُ تَزْقاءً من البوم حولنا
= كما ضُربت بعدَ الهدوءِ النواقس
زقوُ بومٍ لعلّهُ ينذرُ بأن رحلة الشاعر صوبَ ديار أسماء الجديدة هي رحلةٌ باتجاه الموت ، لكنّ الشاعرَ الفارس العاشق لا يهتم لذلك هاهو ذا ينزلُ عن راحلتِهِ ويشعلُ النار ويعدُّ الشواء ، فيستضيفُهُ الذئبُ ، ذئبٌ أغبرُ اللون إلى سواد ، حزين وبائس ، فيحسُّ المُضيفُ ـ وهو ابن الصحراء ـ بحالِ ضيفه ، وتأبى عليهِ عاداتُ قومِه أن ينهرَه ، أو يسيءَ مُعاملته وهو على ما هو عليهِ من جوعٍ وسغبٍ وبؤسٍ ، فيقتطعُ لَهُ من شوائِهِ حُزَّةً ويرميها إليهِ فيقبضُ عليها ، ويرجعُ بها سعيداً ، يهزُّ رأسَهُ محبوراً ، وأمام هذا المشهد يسترفدُ المرقّش قاموسُ فروسيّته ، فيستعيرُ لهذا الذئبِ صورةَ الفارس الشجاعِ يكمي شجاعَتَهُ ويستُرها لوقت الحاجة ، فيؤوبُ بغنيمَتِهِ بعدَ أن ثَبتَ في القتالِ واستحقَّ الفوز ... الشاعِرُ يُعلي من شأن الذئب هنا حين يخلَعَ عليهِ هذا الوصف .. ولو كان لا ينظُرُ إليه باحترامٍ وتقدير لوَجَدَ لهُ وصفاً آخر .. ثمّ دعونا نغوص على أبعادِ هذه الصورة أعمقَ فأعمق ؛ فإذا بلغنا لا وعيَ الشاعر ألا نستطيع أن نرى في مشهَدِ هذا الذئب الذي وفّقَ في مأربِه ، وعادَ فائِزاً كفارسٍ شجاع ، مَا يأمَل الشاعر في تحقيقهِ لنفسه مع أسماء ، ألا يقصدُ ديارها وفي نفسِهِ أملٌ كبيرٌ في استعادتها والعودة بها " جذلان ينفضُ رأسَهُ " فَرَحاً .
*الشنفرى والذئب :
الشنفرى أحد أهم أغربة العرب وذؤبانها وصعاليكها ، وقيل : الشنفرى اسمه ، وقيل هو لقبٌ غالب عليه لعظم شفتيه . أما اسمه فهو عمرو بن مالك الأزدي ، وقد نشأ في بني سُلامان الذين أسروه صغيراً وربّوه ليخدمهم ، فلّما شبّ وعَرَف حقيقته أقسم أن يقتل منهم مئة رجل ، ويقال إن الشنفرى قتلَ رجلاً فعزَم بنو سلامان على تسليمه لأهل القتيل لأنّه ليس منهم ، ففرَّ إلى الصحراء وأخذ بثأرِه حيّاً وميتاً ؛ وتلكَ قصّةٌ أخرى ، توفي الشنفرى حوالي عام 70 قبل الهجرة = 525 للميلاد .
لقد رأى عمروُ بن مالك في أبي جعدة ، أو أبي جاعد ، أو أبي ثمامَة ـ ما لقبّتهُ العرب ـ صديقاً ، بل واحداً من الأهل بعد أن انقطعت سُبُل المودّة والتراحم والشفقة بينَه وبين أمّه ، وآثَرَ أن يبتعِدَ عن الأذى والبغضاء واجداً بين وحوش الفلاة مُتَعزّلاً :
أقيموا بني أُمّي صدورَ مطيّكم
= فإني إلى قوم سواكم لأميلُ
وفي الأرضِِ منأىً للكريم عن الأذى
= وفيها لمن خافَ القِلى مُتعزّلُ
هم الأهلُ لا مستودَع السِر ذائعٌ
= لديهم ، ولا الجاني بما جُرَّ يُخذَلُ ([9])
وكلٌ أبيٌّ باسِلٌ غير أنني
= إذا عرضت أولى الطرائد أبْسَلُ ([10])
لقد وَضَعَ الشنفرى الذئبَ القوي السريع في قائمةِ أهلِهِ الجُدد قبلَ النمر والضبع وغيرهما من الوحوش ، وذكر صفات هذه العائلة التي جعلته يلتجئ إليها فراراً من ظلم ذويه وخذلانهم له ، لقد بلغَ الرجُلُ من الإحساس بالغربة في مجتمع البشر أن وصفَ نفسه قائلاً :
إننا حين نتحدّثُ عن الشنفرى وبعضِ صعاليك العرب نجدُ أنفسنا كما عَبَر د . وهَب روميّة قبالَةَ قضيةِ " انتماء "؛ قضيّةِ " ذاتٍ أرهقها " المجتمعُ الإنساني " بظلمه وأذاه وبغضه ، فإذا هي تخلع " انتماءَها " إلى هذا المجتمع ، وتؤسسُ " انتماءً جديداً " لها إلى " المجتمع الحيواني " !! إنها " تغترب " عن عالم الإنسان ، وتلوذُ بعالم الوحوش الكاسرة ، فتكشف بذلك عن اغتراب قاسٍ جريح . ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل الشنفرى يشبّه نفسه بالحيوانات الضارية ، وبالجن ( .... ) ولعلّهُ أيضاً سببُ هذا النداء " بني أمّي " الذي يجاوز القبيلةَ إلى بني الإنسانِ عامً ، وهاهو ذا يخلعُ انتماءَه " إلى هؤلاءِ جميعاً ، ويلتحق بأشباهِهِ من ذئاب الصحراء ووحوشها الضارية([11]) "، ومن هنا نفهَمُ فَرَحَهُ حين كان يسمعُ ألسنةَ خصومِهِ تروي أخبارَ غزواتِه مشبّهةً إياه بالذئب أو ولد الضبع خِفّةً وسرعة :
فقالوا : لقد هَرّت بليلٍ كلابُنا
= فقلنا : أذئبٌ عَسَّ ، أم عَسّ فُرعُلُ" ([12])
للشنفرى قصيدةٌ لاميّة تقعُ في ثمانية وستينَ بيتاً ، سَمّتها الناسُ فيما بعد " لاميّةَ العرب "، وسَمّاها المستشرقُ جورج يعقوب " نشيدَ الصحراء ([13]) "، لأنها صورت صحراءَ العرب بصورةٍ " تجعلك تحسُ كأنك تعيشُ فيها بين قفارها وحرورها ، وطيرها وحيوانها وقطاتِها وسبعها ، وكأنّما يهبُّ عليك من أسلوبِه نفسُ الصحراء ، ونفحةٌ من رمالها ورياحها وعيشها الجديب ([14])"، وقد خّصّ الشاعِرُ الذئبَ بعشرة أبياتٍ منها : من البيتِ السادس والعشرين حتى الخامس والثلاثين ؛ ووقعت هذه الأبيات في وسط قصيدة ابتدأها الشاعرُ بإعلانِهِ انصرافَهُ عن قومِه مبيّناً أسبابَهُ ، ثُمّ قدّم مفهومَه للرجل الحقيقي من خلالِ استعراضِ مجموعة من النماذج البشريّة المرفوضة ؛ منها نموذَج الراعي الذي يترك قطِعَ الجمالِ منذ الصباح حتى المساء دون رعاية مخافةَ الشمسِ والعطش ، ثُمّ يسبقُ صغار الإبلِ إلى حليب أُمّهاتِها ليتركها جائعة ، ومنها نموذج الرجل الجبان المُلاصَقَ لامرأتِهِ يستمعُ إلى رأيها ويأخذ بهِ ، ومنها نموذج المخنّث الذي لا ينفك يَطيّب ويتكّحل ويجالس النساء ، ورأى أن لا علاقة لَهُ بهذهِ النماذج ، التي يفضلُ عليها ثلاثةَ أصحاب : قلبٌ شجاعٌ مقدام ، وسيفٌ بتّارٌ مجرّدٌ من غمدِه ، وقوسٌ متينة مُزّينة بسيورٍ جلديّةٍ وخرز بعد ذلك يقدّم الشاعِرُ وصفاً عميقاً لحياتِهِ وسلوكِهِ ؛ من صبرٍ وتجلّدٍ على الجوع والعطشِ إلى نومٍ أقربُ ما يكون لنوم الوحوشُ خشونةً وحذراً وفي هذا المقطع يشبّهُ الشاعرُ نفسه ـ في تحمّله الجوع ـ بالذئب ، ويصفُ لنا في لوحةٍ أخّاذة مشهدَ قطعِ الذئاب الجائعة ، ليصف بعد ذلك نفسه وهو يسابقُ القطا إلى الماء فيسبقها ويشربُ قبلها . ويخلُصَ في هذا المقطع إلى نتيجةٍ مفادها إن هذا الأسلوبَ من الحياة هو الذي يحفظ لَهُ كرامته وحرّيته ، ويلوحُ لَهُ عالم الإنس من جديد فيستحضر همومَه ومشاكله مع بني البشر ويتساءَل بأي جنايةٍ سيؤخّذ ، ثُمّ يستذكر متفاخراً غَزوةً له " بغميصاء "، ويروي مزهوَّاً حيرةَ أعدائِهِ وهم يحاولونَ معرفةَ من غزاهم فينسبونَ فعلته تلك إلى الذئبِ أو ابن الضبع أو الجن ؛ فالإنسُ لا يستطيعون فعل ذلك ؟!
وإذا كان الشاعرُ قد افتتحَ نشيده بإعلانِهِ تركَ قبيلتِهِ إلى معشرِ الوحشِ فهو يختمِهُ بمشهدٍ رائعٍ لاندماجِهِ بقطيع الوعول البريّة في يومٍ قائظٍ لا تتحّملُ الأفاعي حَرّه .. فإذا بإناث الوعول " الأراوي " تستقبله وتحتفي به وكأنّه أحدُ ذكورها ، و" عندَ هذا اللقاء تبلغُ مُعاناتُه ذروتها فيتحقق لهُ الخلاص بنبذ إنسانيته ، التي أصبحت مثل ذكرى مُرّة وبالانغماس في رؤيا السلام والأمن والحب في الفلوات المنقطعة وبين الوعول المسالمة الودود " ([15]) لقد أوجزتُ القصيدة ورؤياها في السطور السابقة حتى يصبح مشهد الذئبِ واضحاً للقارئ ولنقرأ الآن الأبيّات المعنيّة هي كما قلت تتوسَطُ القصيدة تماماً ، وتأتي بعد تمهيدٍ غنّي بصور تحمّل الشاعِر الجوعَ :
وأغدو على القوتِ الزهيدِ كما غدا
= أزلُّ تَهَاداهُ التنائِف أطحَلُ ([16])
إذاً فالشاعِرُ يصبرُ على الجوع ويحتملُ ألمَهُ حتى يميتَه ، وذلكَ باتباع سبيلٍ واحد لا ثاني له هو محاولةُ نسيانهِ حتى يذهَلَ عنهُ تماماً ؛ وقد يستفُّ الترابَ ولا يقبلُ بفضلٍ أحدٍ عليه حتى إذا كان الصباحُ غدا للحصولِ على رزقِه كذئبٍ أملحٍ خفيف ، فجابَ الفيافي ، وشَقّ الشعاب مواجهاً الريح ، ومنقضّاً على هذهِ الطريدة أو تلك إن كان ثَمّة ما يُطارَدُ ، فإذا ما أُسقطَ في يديه وقفَ مُعتلياً إحدى القمم وراحَ يعوي بكلِ ما في النفسِ من ألمٍ وجوعٍ وحسرةٍ ، فأجابته ذئاب لا تقلُّ عنه جوعاً وهزالاً ، حتى بدت وجوهُها شاحبة بيضاء لا دماء فيها ، ذئابٌ نحيلة تتجهُ نحوه ، فيُسْمَعُ لعظامِها قلقلة كصوت اصطكاكِ الأقداحِ في يدي لاعب الميسر ، ذئابٌ تثيرُ جلبةً ودوّياً ؛ كدوي النحلِ حين يثيرُهُ مشتارُ العسل بعيدانِهِ .. ذئابٌ ذات أشداقٍ واسعةٍ مفتوحة ؛ لكنّها كشقوقِ العصي كنايةً عن عطشها وجفافِها ، إنّها ذئابٌ عابسة كريهة الوجوهِ لجوعها وعطشها ، لقد استجابت لنداء صَاحبها فجاءت مواسيةً ! فإذا بهِ يقابلها بالزمجرةِ والعواء وتجيبه بالمِثل فيقفُ الفريقان متقابلين كالنائحاتِ تندبُ واحدتهنّ فقيدَها ... ويحسُّ كلٌ منها بالآخر ؛ فيسبِلُ الذئبُ جفونه على عينيه جَرّاء الشعور بالخيبة وتقتدي الذئابُ الأخرى به وقد وصلت رسالَةُ المؤازرة والمواساة ، يبثُّها حزنَهُ وتجيبه ، ثُمَّ يصمتُ الفريقانِ إدراكاً منهما أن الصبرَ في مثل هذهِ الحالة أكثرُ فائدةً وأجملُ بصاحبه .. بعد ذلك يعود الذئبُ أدراجه ؛ وتتبَعُهُ الذئابُ التي استجابت لَه في المجيء ، تظهِرُ جميعُها التجلّدَ والتحمّلَ بعد أن عَبّرت عن الألفة والمودّة والشعور بإحساس الآخر .. أليس هذا ما افتقدَهُ الشنفرى في بني قومِه ... ولماذا لا يكون هذا الذئبُ هو الشنفرى نفسُه ؟ ولماذا لا تكونُ الذئابُ الأخرى هي الصعاليك أنفسُهم ([26]) ؟! بل لو أمعنا النظرَ في قطيع الذئاب هذا فسنجدُ فيهِ تأبّطَ شراً والسليك بن السلكة وقيس بن الحداديّة وغيرَهم .. وإلا فما معنى هذا التراحم والمودّة والإحساس المتبادل .. لو أنّ الذئابَ مجرّد ذئاب لانتهى المشهَدُ بصورةٍ أخرى .. لا أقولُ صورة وحشيّة دمويّة ـ لأنّ ذلك عندئذٍ لن ينسجم مع رؤيا القصيدة العامة ـ لكن أقول صورة فيها من الخشونةِ والقسوة ما يتوافَقُ مع قسوةِ ما يحيطُ بقطيع الذئاب ؛ إذاً لم يكن ذلك الذئب إلا مُعادلاً خارجيّاً لشخص الشاعِر ، يُحمِّلُهُ كل ما احتملَ ، ويسبِغُ عليه صفاتِه نفسَها وأخلاقَه ، ويراقبُهُ وهو يتصرّف ، ويتخذ من المواقف ما يتخذُه الشاعر تماماً في ظروف الجوع والعطش والخيبة ، ولعلّ ما ذهبتُ إليه في هذا الرأي يلتقي بصورة أو بأخرى مع رأي الباحث العراقي د . عناد غزوان إسماعيل حين قال ([27]) : " ذئب الشنفرى جائع يشاركه الجوع أصدقاء لَه يعيشون في المأساة ذاتها مما يجعل القارئ يستنتج أن الذئب في هذهِ اللوحة رمز لحياة الصعاليك "، وإلى ذلك يقدّمُ الشنفرى في مشهد الذئب معرفةً عظيمةً بالفضاء الصحراوي الذي تتحرّكُ فيه ذئابُهُ ، والكائنات الأخرى ، معرفة بهذهِ الأوابد نفسها ، لكن اللغةَ كما لاحظنا جاءت خشنة وعرة ، فرسمت بالمجمَلِ صورةً بدويةً صعلوكيّة ؛ قدّمها الشاعِرُ وكأنّه يقف خارج المشهد ؛ فجاءت كحكايةٍ صغيرة تغني النص الكبير الذي ضَمّها ! ونلاحظ في المشهد أيضاً استطاعَ أن يُحقق خصوصيّةً فنيّةً ميّزت أبيات الشنفرى السابقة : وهي الانسجام والاتساق الموسيقي الذي جاءَ عفوياً دون تكلّفٍ وتعمّل كقولِهِ : " غدا طاوياً يعارض الريح هافياً " ، " فضجَّ وضجّت " ، " وأغضى وأغضت واتّسى واتّستْ بهِ " " شكا وشكتْ ثُمّ ارعوى بعدُ وارعوت " ، " وفاءَ وفاءت " إن التناسق اللفظي وكثرة أفعال الحركة في المقطع كله أكسبت المشهد ديناميكيّة عاليّة أنقذته من السكون وجعلته واقعياً نابضاً بالحياة .
*حميد بن ثور الهلالي والذئب :
حميدُ بن ثور الهلالي رضي الله عنه وأرضاه شاعرٌ مخضرم عاش في الجاهلية والإسلام ، عدّهُ الأصمعي واحداً من أعظم أربعةِ شعراء في الإسلام هم : " راعي الإبل النميري ، وتميم بن مقبل العجلاني ، وابن أحمر الباهلي ، وحميد الهلالي " ([28]) ، وقد اختلفَ مؤرخوا الأدبِ في تاريخ وفاته ؛ فقال بعضهم إنه توفي في أيام عثمان بن عفّان رضي الله عنه وأرضاه ، وقال آخرون إن الرجل أدرك أيام عبد الملك بن مروان الذي ولي الخلافة سنة 65 هجريّة ([29]).
لحميد قصيدة كاملة تتحدث عن ذئبٍ جائع يتربّص بقطيع من الضأن والمعز ، طمعاً في الحصول على واحدٍ من صغارها ، لكنّ ربّة القطيع تقفُ لَهُ بالمرصاد :
ترى ربّةَ البَهْم الفِرار عشيّةً
= إذا ما عَدَا في بَهْمها وهو ضائعُ ([30])
فقامَتْ تَعُسُّ ساعةً ما تُطيقُها
= من الدهرِ نامتها الكلابُ الضوالِعُ ([31])
رأتهُ فشكّت وهو أطحَلُ مائلٌ
= إلى الأرضِ مثنيٌّ إليهِ الأكارعُ ([32])
طوى البطين إلا من مصيرٍ يَبُلُّهُ
= دمُ الجوفِ أو سُؤْرٌ من الحوضِ ناقِعُ ([33])
هو البَعلُ الداني من الناس كالذي
= لَهُ صحبةٌ وهو العدو المُنازِعُ ([34])
ترى طرفيهِ يَعْسِلانِ كلاهما
= كما اهتزّ عودُ الساسِمِ المُتتايِعُ ([35])
إذا خافَ جَوْراً من عدوٍ رمت بهِ
= مخالبُهُ والجانبُ المتواسِعُ ([36])
وإنْ باتَ وحشاً ليلةً لم يضق بها
= ذِارعاً ، ولم يُصبح لها وهو خاضِعُ ([37])
ويسري لساعاتٍ من الليل قَرَّة
= يهابُ السرى فيها المخاضُ النوزاعُ ([38])
إذا ما غدا يوماً رأيتَ غَيايَةً
= من الطيرِ ينظرنَ الذي هو صانِعُ ([43])
فَهمَّ بأمرٍ ثُمّ أزمَعَ غيرَهُ
= وإن ضاقَ أمرٌ مَرّةً فهو واسِعُ
يقوم المشهد الذي صوَّرَهُ الشاعِرُ على عددِ من الشخوص ـ على سبيل المجاز ـ أولاً : المرأة ربّة البهم ، وقطيعُها ، وكلابُها التي بدت زائدة ؛ لا تضرُّ ولا تنفع ، وليست معنيّة إلاَّ بطلبِ السِفاد . ثانياً : الذئبُ الجائعُ الهزيلُ ، الأطحلُ اللون ، الذي يدفعُهُ جوفُهُ الفارغُ ـ إلا من أمعائِهِ الخاوية الضامرة المطوية على جرعةِ ماءٍ ودماء ـ إلى الاقتراب من بني البشر كأن لَهُ بينهم أصحاباً وما كانَ بين الطرفين إلا العداء أبدَ الدهر .
ثالثاً ـ مجموعة من الرجال تظهرُ في المشهدِ فجأةً ؛ يتبعها الذئبُ وقد مُنِعَ عن صغار الغنمِ والماعز ؛ ويظل يترصّد هؤلاء البشرَ حتى غابت " خباشُ " عن الأنظار وحالت بينَهُ وبينهم " الأجارع " وكانَ كُلّ أملِهِ أن ينفردَ واحدٌ من هؤلاء ، ويبتعدَ عن صحبِهِ ، فينقضَ عليه ويقضي به وطره .
هذا هو المشهد إذاً بشكلٍ مُكثف ، لكن الشاعر لا يقدّمُهُ ـ كما رأينا ـ على هذا النحو فحسب بل يُعطى كلَ فريقٍ من الفرقاءِ حَقَّهُ من الوصفِ والتصوير ، قابضاً زمامَ السرد بيدِه ومستغنياً بهِ عن الحوار الخارجي أو الداخلي أو تدخّل أصوات أخرى ، لكنَّ الطريف في هذا السارد أنّه يخاطب نفسه في بيتٍ واحدٍ فقط يأتي في الثلث الأخير من القصيدة مذكِرّاً بحضور شخص المؤلِف في بعضِ القصص والروايات المعاصرة ؛ ثُمَّ يختفي من جديد يقولُ البيت :
ونمتَ كنومِ الفهدِ عن ذي حفيظةٍ
= أكلتَ طعاماً دونَهُ وهو جائعُ
كيفَ نبتَ هذا البيتُ في القصيدة فجأةً ؛ من يخاطب الشاعِرُ هنا ؛ في بداية قراءتي النص قدّرتُ أن هناكَ خطأً في تثبيت صيغة الخطاب ، ولعلّ الشاعر يخاطبُ المرأةَ نفسها التي حمت قطيعها من الذئب مَرّةً بالهروبِ بهِ من البادية إلى مرابعها ومَرّة بتفقّدِ صغار البهائم ليلاً ، وقد غفلت الكلاب الضوالِعُ بعد أن حققت مُرادها ، لكنني نفيتُ هذا الاحتمال ، فما كان لمثلها أن تنامَ وهي ترى الذئبَ يحوّم حولَ القطيع ، ولاسيّما أن الشاعِرَ قَدَّمَها متعلّقةً ببهمها بصورةٍ تدعو إلى الغرابة ؛ حتى أنّ الأهون عليها أن يقتنِصَ الصَّيادُ أحدَ أبنائِها من أن ينالَ واحداً مِنها ، وعليه رجّحت أن يكونَ الشاعِرُ فريقاً رابعاً في المشهد ينظرُ إليهِ من بعيد ويراقبُ كل ما يدور ويحدُث دونَ أن يتدخّل ، حتى أنّهُ يتناول طعامَه وينامُ كنوم الفهدِ حَذِراً يقظاً . إنّ هذا الشكل من تدخّل المؤلف في نصّه ذكرّني كما قلتُ بطريقةٍ فنيّة في بناء السرد القصصي والروائي ستستخدَمُ في هذا الجنسِ الأدبي بعدَ زمن الشاعِرِ بألفِ سنةٍ على الأقل يقدّمُ المشهَدُ أيضاً معرفةً عميقةً بعالم الوحشِ ولاسيّما الذئب في هذا المقام لقد وصفَهُ الشاعِرُ من الخارج في البداية ، فقدّمَ لنا هيئتَهُ ، لونَهُ ، هُزالَهُ ، مشيتَهُ ، مستثمراً الموجوداتِ من حوله في هذا الوصف فساقاهُ حين يعسلُ في مشيتِهِ كغصني " الساسِم المتتايع "؛ هزيلتان بالتأكيد ، لكن مرنتانِ وصُلبتان وهكذا ... ثُمّ وصفَ سلوكه وحالته النفسيّة ، إنّه شديدُ الصبر والجَلد ، والكبرياء فحين يخشى جور أحدٍ عليه ينطلقُ في البراري الواسعة مُغادراً موطن الجور ، وحين يجوعُ لا يتذمّر ولا يخضَعُ بالمقابل ، بل يصبر ثُمّ يسعى لاقتناصِ صيدٍ يدفع عنه مرارةُ الجوع ، فإذا بسحابةٍ من الطير تُرافقه عَلّها تصيبُ من صيدِهِ شيئاً ، وقد عَوّدها على ذلك فهو يتركُ لها ما تقتاتُ به من فريسته ، وإلى ذلك وصفَ الشاعِرُ حذر هذا المخلوق الشديد ؛ إنّه حتى خلال نومِه يظلُّ يقظاً ؛ فيغمضُ عيناً ويفتَحُ أخرى ..
وذئبُ حميدٍ الهلالي ـ بعدُ ـ مترددٌ لسبب لا نعرفُهُ ؛ هل هو طبعٌ في الذئاب . أم أن تردّد الذئبِ يعكسُ حالةً نفسيةً عند الشاعِر ، أو يصوّر صفةً جوّانيةً من صفاتِ مبدع الأبيات نفسه ؟ يبقى السؤالُ مفتوحاً لا جوابَ له ، لأننا لا نزعُمُ معرفتنا بصفات الشاعِر النفسيّة ولاسيّما أن ما يفصلنا عنهُ ألف وأربعمئة عام من الزمنِ والتحوّلات والتغيرّات .
كعب بن زهير والذئب :
كعبُ بن زهير بن أبي سُلمى المزني شاعِرٌ من الشعراء المخضرمين الفحول ، ينتمي إلى بيتٍ من أعرقِ بيوت العرب في الشعر ، هو ابن زهير ، وأخوهُ بجير ، وابنُهُ عقبة ، وحفيدُهُ العوّام ، وكلّهم شعراء ، كان الرجُلُ من المشهورين في الجاهلية ، وحين انطلقت الدعوة المحمّدية وقفَ منها موقِفَ المعارض وهجا النبي (e) ، وتغزّلَ بنساء المسلمينَ للنكاية " فهدرَ النبي دَمه ، فضاق كعبُ ذرعاً ، ثم جاءَ إلى النبي مستأمِناً وقد أسلم ، وأنشدَهُ معتذراً لاميته المشهورة ، التي مطلعها :
بانتَ سعادَ فقلبي اليوم مبتولُ
= متيمٌ إثرها ، لم يُفدَ مكبولُ
فعفا عنهُ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وخلَعَ عليهِ بُردَتهُ ، ثُمّ توفيَ سنةَ 645 م" ([44]) وكعبُ كما هو معروف واحدٌ من " عبيد الشعر "، وهم مجموعة من الشعراء امتازوا بالعملِ حولاً كاملاً على القصيدة قبل نشرها ، تهذيباً وتنقيحاً وتكثيفاً و " تحكيكاً "، حتى تبرز إلى الناس بصورة مُثلى ، من هؤلاء زهير وأوس بن حَجْر والحطيئة .
لكعب بن زهير لاميّة معروفة مطلعها :
ألا بكَرتْ عرسي تلومْ وتعذِلُ
= وغير الذي قالتْ أعفُّ وأجمَلُ ([45])
تقعُ في ثلاثةٍ وخمسينَ بيتاً ([46])، خَصّ الشاعِرُ مشهدَ الذئب فيها بسبعةَ عَشَرَ بيتاً من الثاني عشر حتى الثامن والعشرين يقول فيها :
أغارا على ما خَيَّلتْ وكلاهُما
= سيخلُفُهُ منّي للذي كانَ يأمَلُ
يقطعُ الشاعر أرضاً قاحلةً مُخيفة ، لا يجرؤ على عبورها إلا الذكور ؛ فإذا ما هبط الليل عليهِ راح يسمَعُ في جنباتِها دويّاً غريباً ؛ ظنّهُ للوهلة الأولى أُنسيّاً ، فحاولَ أن يتبيّن معناه لكن دون جدوى ؛ عندها فهم أن هذا الدويّ ليس إلا عزيفَ الجنِ ، وربّما لحسنِ حظّهِ ما شاهُ في هذهِ المفازة ذئبٌ أغبرُ اللونِ إلى سواد ، هزيل الجسد ، ذئبٌ بهِ ما بالشاعِرِ ـ على الأرجح ـ من إحساسٍ بالوحشةِ والرهبة ، ولعلّ هذا ما دَفَعَهُ إلى الاقتراب من الشاعِر ، وربّما من غيرِه أيضاً في مثلِ حالتهما .. كان الذئب يَعْسِلُ ويخبُّ ، ويدنو حتى أصبَحَ في مَرمى النبلِ ؛ مما جعَلَ الشاعر يحدّث نفسه قائلاً : ما من وحشٍ يقتربُ من بني البشرِ على هذا النحو إلا إذا كانَ غِراً جاهلاً لا خبرةَ لديهِ ، أو ضالاً ضائعاً يريدُ من الآدميِّ أن يُرشده . حتى إذا تجاوزَ الذئبُ في دنّوه من الشاعِر حَدّ الأمان ، رأيناه يزجرُهُ فتعلو وجههُ قشعريرة ، ويعوي عكسَ الريحِ فتصفر داخِلَهُ لخلاءِ معدتِه وأمعائه ، كنايةً عن الجوع ويمضي كعب بن زهير وفي وصف شكل الذئبِ ولونه بعدَ أن اقتربَ منه كما أسلفتُ إلى مسافة جعلت ذلك مُمكناً ، ثُمَّ يُقارِنُ بين حالي الذئب في الشتاء والصيف ليقول لنا إن الذئبَ لا يكون هزيلاً جائعاً في الشتاء مثلما هو في الصيف لأن الطعام يكون وافراً عندئذٍ .
وفجأةً يظهرُ في المشهدِ غُرابٌ نحيلُ الساقين ، جائعٌ أيضاً كصاحبِهِ الذئب ، فيراقبُ الاثنانِ كعباً عَلَّهُ ينزِلُ في مكان ما ويبسطُ ما مَعَهُ من زاد ، فيقدّمُ لهما شيئاً منه لكن الشاعِرَ يخاطبهما بوضوح : إن أملهما لن يتحقق لأنّهُ هو أيضاً مُرمِل ، لا زادَ عند ويرجعان خائبين جائعين .
إن هذا المشهد ـ وما سبقَهُ أيضاً وربّما ما سندرسُهُ لاحقاً ـ يعتمدُ بصورةٍ كبيرة على عُنصر السردِ والقص ، ولعلّ طبيعة الحكاية التي يقوم عليها تفرض ذلك ، لكننا نلاحظ هنا حضور شكلين من أشكال الحوار ؛ الأوّل داخلي على شكل مونولوج حين خاطب الشاعر نفسه قائلاً :
تقرّبَ حتّى قلتُ لم يدنُ هكذا
= من الإنسِ إلا جاهلٌ أو مُضّللُ
والثاني خارجي يتوجّهُ فيه الشاعِر إلى مرافقَيه ؛ الذئب والغراب :
إذا حضراني قلتُ لو تعلمانِهِ
= ألم تعلما أنّي من الزاد مُرمِلُ
وهذانِ الحواران جعلا النص لصيقاً بالقصّة القصيرة ، وبعثا الدمّ والتشويق في جسدِهِ وكشفا ـ مع العناصر الأخرى في اللوحة ـ الحالة النفسية لشخوص المشهد وما اعتَمَلَ في نفوسِهم ، إزاء وحشة المكانِ ، والجوع والعطش وهي أمور مُلازمة لطبيعة العيش في الصحراء .
([1]) المعلّقات العشر، دراسة ونصوص: تقديم بولس سلامة، الشركة اللبنانية للكتاب، بيروت، لبنان 1969 ص (214 ـ 215) ـ شَعوب: المنيّة. محروب: مسلوب .
([2]) د. وهب أحمد روميّة، شعرُنا القديم والنقد الجديد، علم المعرفة 207، الكويت، آذار 1996، (ص 197 ـ 198).
([3]) هو عمرو بن مالك بن طبيعة .. من نزار بن عدنان، سُمّي المرقّش بقوله :
الدار قفرٌ والرسوم كما
= رقّش في ظهر الأديم قلم
انظر : ابن قتيبة الشعر والشعراء، ج 1، ص 138.
([4]) الجواهري، الجمهرة، ج 1، العصر الجاهلي، وزارة الثقافة السورية، دمشق 1985، ص 136.
([5]) المفضليات، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون، ط 4، دار المعارف بمصر 1964، ص 221.
([6]) المفضليات، (سابق)، المفضليّة رقم (47) مؤلفة من (20) بيتاً، الأبيات (14، 15، 16) في وصف الذئب ص 226.
عرانا : أتانا ـ أطلس : أغبر اللون إلى سواد .
([7]) حُزّة: قطعة ـ الكمى المجُالِس: الشجاع الشديد الذي لا يبرح مكانَهُ في الحرب .
([8]) سيد : ذئب ـ عَمّلس : قوي على السير والجري ـ أرقطُ زهلول : نمر أملس ـ عرفاء : أي ذات عُرف ـ وجيأل : من أسماء الضبع ، أي الضبع ذات العرف الطويل ، وهو شعر أعلى العنق .
([9]) جر : ارتكبَ جريرةً أو إثماً .
([10]) أبيٌّ : صاحب أنفةٍ وعِزّة ـ باسل : شُجاع .
([11]) د. وهب أحمد روميّة، شعرُنا القديم والنقد الجديد، سابق، ص (265 ـ 266).
([12]) فُرعُل : ولد الضبع ـ عَسَّ : طافَ .
([13]) د. عناد غزوان إسماعيل، قراءة عصريّة في أدب الذئب عند العرب، مجلّة المورد، المجلد الثامن، العدد الأوّل، بغداد 1979، الصفحات (81 ـ 103)/نقلاً عن د. محمّد بديع شريف، لاميّة العرب، ص 7.
([14]) نفسه ص 84 نقلاً عن د. محمّد صبري "الشوامخ، الشعر الجاهلي ـ خصائصه وأعلامه، مطبعة دار الكتب المصريّة، القاهرة 1944، ص 125.
([15]) د. محيي الدين صُبحي، دراسات رؤويّة، وزارة الثقافة، دمشق 1987، ص 192.
([16]) أزل: الذئب خفيفُ الوركين، لقلّةِ لحم الوركين ـ تهاداهُ: تهديه المفازةُ لأخرى ـ التنائف: جمع تنوفَ وهي المفازة. الأرض القفر ـ أطحل: الذئب الذي لونه بين الغبرةِ والبياض. الأملح.
([17]) طاوياً: جائعاً ـ يذهب يميناً وشمالاً من شدّة الجوع، وقد يعني السرعة في العدو، إذا حف على الأرض واشتدّ عدوه ـ يخوت: ينقضّ ـ أذناب الشعاب: أواخرها، والشعاب الطرق في الجبال ـ يعسل: يمشي خبباً ويسرع.
([18]) لواه: دفعه وامتنع عليه ـ أمَّهُ: قصَدهُ ـ نظائر: أشباه، أمثال ـ نُحّل: مهازيل وضوامر.
([19]) مهلهلةٌ: خفيفة اللحم ـ شيب الوجوه: مبيضّه ـ القداح: جمع القدح، وهو السهم قبل أن يُراش. الياسر: اللاعب بسهام الميسر ـ قلقلها: حَرّكها.
([20]) الخشرم: رئيس النحل، أو النحل ـ المبعوث: الذي انبعث في السير: أي أسرع ـ حثحثَ: حَضَّ ـ دبرَهُ: الدبر جماعة النحل ـ محابيض: ج محبض: عود يكون مع مشتار العسل يثير به النحل ـ أرواهنّ: ثبتهن ومكنهن ـ سامَ: اسم فاعل من السمو؛ المرتفع العالي ـ المعُسِّل: طالب العسل.
([21]) مهَّرتهٌ: مشقوق الفم شقّاً واسعاً؛ أي واسعة الأشداق ـ فوهٌ: جمع أفوه وفوهاء، مفتوحة الفم، واسعة الفم. شدوقُها: جمع شدق، وهو جانب الفم ـ كالحات: الكلوح، تكشّر في عبوس ـ بُسّلُ: كريهة الوجوه.
([22]) فضجَّ: يقال أضجّ القوم اضجاجاً إذ جلبوا وصاحوا ـ البَرَاح: الأرض الواسعة لا رزعَ فيها ولا شجر ـ نُوحٌ: النساء النوائح، جمع نائحة، والتناوح في الأصل تقابل الشجر بعضها بعضاً.
([23]) الإغضاء: إدناء الجفون بعضها من بعض ـ اتسى: امتثل واقتدى ـ المراميل: جمع مرملة، الفاقدة غذاءها
([24]) ارعوى: تركَ، سكت ـ شكا: بث حزنه.
([25]) فاءَ: رَجَعَ ـ بادرات: مُسرعات ـ النكظُ: الجوع الشديد ـ المجمل: الصابر على مضض.
([26]) ما يؤكد وجهة النظر هذه هو تشيبه الشنفرى نفسه وجماعته بالذئاب في بعض أشعاره :
خرجنا فلم نَعْهَد وقلّتْ وَصَاتُنا
= ثمانيةٌ ما بَعْدها مُتعتّبُ
سَراحينُ فتيانٌ كأن وجوهَهُمْ
= مصابيحُ أو لَوْنٌ من الماءِ مُذْهَبُ
والسراحين: جمع سرحان وهو الذئب. أنظر: الأغاني ج 21، ص 141 ـ 142.
([27]) د. عناد غزوان إسماعيل، سابق، ص 87.
([28]) ديوان حميد بن ثور الهلالي، عبد العزيز الميمني، مصر، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1951، ص: ون.
([29]) د. عناد غزوان إسماعيل، سابق، ص 91.
([30]) ضائع: يقصد هنا جائع.
([31]) تعسُّ: تطلبُ مُرادها ليلاً ـ الضوالع من الكلاب: التي تطلبُ السِفاد.
([32]) الأطحل: الرمادي اللون.
([33]) مصير ـ معي ويجمع على مصران، وجمع الجمع مصارين ـ طوِي: ضامر البطن ـ سُؤْر: بقعة ـ ناقع: وصفٌ من نقعَ الماءُ العطشَ نقوعاً إذا سَكّنه.
([34]) البَعِل: البرمُ بأمره.
([35]) يعسلان: يهتزان، وعيل الذئب مضى مُسرعاً مضطرباً في عدوه ـ الساسم: شجرٌ تصنعُ منه السهام ـ المتتايع: الذي لا عُقدَ فيه ولا ميول.
([36]) المتواسِع: وصفٌ من السعة.
([37]) باتَ وحشاً: يقصد جائعاً.
([38]) قَرّة: باردة ـ المخاض: الحوامل من النوق ـ النزاع: جمع نازع، وهي الناقة تحن إلى موطنها.
([39]) حضنا بلدة: جانباها ـ طُرَّ: طُرِدَ بشدّة.
([40]) البُوع والباع: قَدْرُ مد اليدين وما بينهما من البدن.
([41]) تعاديا: تباعدا ـ صأى: صاحَ ـ أقعى: جلسَ على إليته ونص فخذيه ـ بلاقع: أراض مقفرة.
([42]) خباش: نخلٌ لبني يكثر باليمامة، وقيل هضبة.
([43]) غيايةً: ما يظل الإنسان من سحابة أو غبرة أو ظلمة.
([44]) محمّد مهدي الجواهري، الجمهرة، ج 2، ق 1، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1990، ص 80.
([45]) شرح ديوان كعب بن زهير، صنعه السكري، الدار القوميّة للطباعة والنشر، القاهرة، 1965، ص 41.
([46]) نفسه، ص (41 ـ 60).
([47]) صرماء: أرض قاحلة ـ مذكار: لا يسلكها إلا الرجال، لأنها مخوفة ـ الدويّ: الأصوات الغريبة، يقصد هنا عزيف الجن ـ جنان الليل: هبوط الظلام.
([48]) المتضائل: الهزيل النحيف ـ الأطلس: الذئبُ الأمعط؛ في لونِهِ غُبرة إلى السواد ـ يخب: الخبب ضربٌ من العدو، يعسل: يعدو مُسرعاً.
([49]) الرِمث: شجر يشبه الفضا، لا يطولُ بل ينبسط ورقه ـ يُغل به: يدخُل ـ يُجلّل: يكسوه ويظهر على متنيه.
([50]) الضّراء: ما وراء المرءَ من شجرٍ أو غيره ـ خدا: سارَ مُسرعاً ـ يُعيلُ: يميلُ في ناحيته، ويقالَ عالَ في الأرض يعيل عيلاً وعيولاً إذا ضربَ فيها وذهَبَ ودار ـ الجهاد: الأرض الغليظة الصلبة لا نبتَ فيها ـ يمثل: يظهر.
([51]) حمي: مُحتمٍ ـ
([52]) نساه: النسا عرق في الساق ينحدر من الورك ـ شرعة: وتر، جمعها شِرَعٌ وشِرْعٌ.
([53]) حَمْش: غراب ـ مستكره الريح: أي يستقبل الريح فتصدّه ـ أقزل: أعرج.
أخي الكريم / مشاكس الفيحاني السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : شكرا جزيلا لك على مرورك الكريم بالشعراء والذئب والله يعافيك ويبارك فيك مع أطيب الأمنيات واسلم وسلم والسلام .
أخي الكريم / خيال العرفاء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : شكرا جزيلا لك على مرورك الكريم بالشعراء والذئب وتعليقك الموفق ولا شكر على واجب والله يعافيك ويبارك فيك مع أطيب الأمنيات واسلم وسلم والسلام .
هو / ثابتُ بن جابر بن سفيان ، من بني فهم من مُضر بن نزار ، من أهل تهامة ، غلب عليه لقب " تأبّط شراً "، وهناك أقوال كثيرة في سبب هذا اللقب ، أشهرها أنّه تأبّط يوماً سيفاً وخَرَجَ ، فقيل لأُمّه : أين هو ؟ فقالت : تأبّطَ شراً وخرج ([1]).
كان تأبّط شراً من أشهر العدّائين وفتّاك العرب وصعاليكها في الجاهليّة ، وهو شاعرٌ مُجيد ، قُتلَ في بلاد هذيل نحو سنة 80 قبل الهجرة = 540 للميلاد ([2])
لتأبط شراً قصيدة تَقَعُ في ستة وثلاثين بيتاً ، خصّ الذئبَ منها بسبعة جاءت في آخر القصيدة ، تقول هذه الأبيات([3]) :
يجيءُ هذا المقطع ليختِمَ قصيدة غير قصيرة بدأها الشاعِرُ بهجاءِ بعض البخلاء الذين نزلَ بهم ، وأقسَمَ ألا ينسى ما عاش صنيعهم وتقتيرهم ، ثُمَّ رسَمَ فيها رؤيته للحياةِ ، ولدوره فيها ؛ بانياً تلكَ الرؤيا على التمرّدِ والشجاعةِ والفتكِ والكرمِ عندما تدعو الحاجة ، والزهدِ بما يطلبُهُ الآخرونَ من متاعٍ ومالٍ ، وشرب الخمرة ، والثباتِ إزاء تقلّبات الدهر :
ولستُ بمفراحٍ إذا الدهرُ سَرَّني
= ولا جازعٌ من صَرفِهِ المُتَحوّلِ
وهو يرفضُ أن يكونَ ثرثاراً كثير الجَلبةِ كالريح الشديدةِ ، وليس بالتأكيد صخرةً جامدةً صَلدةً منعزلة عن تقديم الخير ، ولا جباناً ، ولا شرهاً مفرطاً في تناول الطعام . إلى غير ذلك من الصفات التي يصف نفسه بها . ثُمّ تُقدِّمُ لنا القصيدةُ ثلاثةَ مشاهدٍ تُمثّلُ مواقفَ يعتزَ بها الشاعر ، آخرها مشهَدُ عبورهِ وادياً . مُوحشاً مُظلماً مقفراً كجوف العير ، رافقهُ فيه ذئبٌ يعوي كرجلٍ ذي عيالٍ خلعته قبيلته ، ورمت به إلى الصحراء ، فلا هي تطلبُ بدمِهِ أحداً فيما لو قُتل ، ولا تدفَعُ عنه شراً ، أو تردّ عنه إن قتلَ أحداً . إنها العقوبة الأقسى في الجاهلية ، ومَنْ أكثر من تأبّط شراً وإخوانه الصعاليك الخُلعاء يقدّرُ هذهِ العقوبة حق قدرها ؟؛ لقد كان عواء هذا الذئب يفصح عن حزنٍ وألمٍ شديدين لا يَعْدلُهما إلا ما يعانيهِ رجلٌ مخلوعٌ ؛ صعلوكُ تبّرأت منهُ قبيلته ورمت بهِ إلى الصحراءِ لقد قطعَ هذا الذئب أرضاً وعرةً شاقةً غليظة ، تكادُ لخلوِّها الشديدِ من المخلوقاتِ الحيّةِ تبدو عَاجّةً بالأصواتِ الغريبة ، إنّهُ جائعٌ تَعِبُ ، شأن من ذَهَبَ هذا المذهب في الخروج ليلاً ، لكنّهُ لم يوفّق إلى الرجل الذي يَقْدِرُ على مساعدته . فثابتُ بن سنان فقيرٌ مُرمِلٌ ، وهاهو ذا يعلنُ له ذلك ، ويقولُ لَهُ لقد وقعتَ على شبيهكَ تماماً ، فكلانا ينفقُ ما يحصلُ عليه ، أو يضيّعه ، وهو قليلٌ أصلاً ، فلن يُدرِكَ مُرادَهُ من يرجو منّي أو منكَ عطاءً ، وسيصابُ بالهزال ، ونحن شبيهان أيضاً في إعراضنا عن الحي البخيل ، الذي تَهُرُّنا كلابُهُ كلّما حاولنا أن ندخُلَه ، دون أن يزجُرَها كلابها ( أي صاحبها وسائسها )، بل لعلّه يدفعها إلى ذلك متناسياً أنّ هرير الكلب على الضيف عيب أيّما عيب؛ ألم يقل الشاعرُ العربي القديم ([12]):
إذا ما بخيلُ الناس هَرّت كلابُهُ
= وشقَّ على الضيفِ الضعيفِ عَقورُها ([13])
فإني جبانُ الكلبِ بيتي مُوَطّأٌ
= أجودُ إذا ما النَّفْسُ شَحَّ ضميرُها
وربَّ راءٍ يرى هنا أن تأبّط شراً يقولُ للذئب نحن شبيهانِ في خروجِنا على حَيّينا بعدما نالنا كالذي نالنا منهما ، انطلاقاً من أن الشاعِرَ أحدُ الصعاليك الذين خلعتهم قبائلهم ، لكنني أرجّح الوجَه الأوّل للمعنى استناداً إلى مقدّمةِ القصيدة التي هجا فيها الشاعر مجموعةً من البخلاء الذين لا يستضيفهم أحد إلا رَجَعَ خائباً ذاماً لهم ، وعندها يمكن أن نفهَمَ البيتين الأخيرين من القصيدة :
طرحتُ لَهُ نعلاً من السِّبتِ طَلّةً
= خلافَ نداً من آخر الليل مُخضِلِ
انطلاقاً من السخرية المريرة التي ترافِق الخيبة ، فكلاهما ( الصعلوك والذئب ) عاد خائباً من رحلته ، وعَزّ على تأبّط شراً ، أن يترك ذئبه دون أن يقدّمَ له شيئاً ولو من قبيل المواساةِ ؛ وماذا يمكن لهذا الخليعِ المُرمِل أن يقدّمَ لصاحبِهِ ؛ قوسَهُ ؟ سيفَه ؟ نبلَهُ ؟ بالتأكيد لا ! إذاً فسيرمي له فردةَ حذاءٍ مصنوعٍ من جلدٍ ما ، لَعلّ فيه بعدُ شيئاً من رائحةِ وطعم الحيوان الذي سُلِخَ عنه ، فانصرفَ الذئبُ فرحاً مسروراً بما نالَهُ ، كمن حَظيَ بغُنمٍ كبير ، وهي صورة تذكّر بما رسَمَهُ المرقش الأكبر لذئبِهِ العائد بِخُزَّةٍ من شوائِه !
إن الناظِرَ في صورة الذئبِ عند الشعراء الصعاليك يلاحظ كيف " يتخذُ مشهد الحيوان في شعرِ هؤلاء نهجاً مُغايراً لغالبيّة مناهجِ الفن الشعري عند الجاهليين لإختلاف مفهوم حياة التبدي لديهم . ويستطيعُ مشهدُ الحيوان دون غيرهِ أن ينقُلَ إلى الأجيالِ ذلكَ المفهوم الاجتماعيَ ؛ لأن حياتَهم مثلُ حياتِه . فكما تتآلفُ الذئابُ على الفريسة تآلفتِ المنفعَةُ بين أفراد من القبائل ، وتوحّدت أهدافهم ومقاصدهم كالسلبِ والنهب وتهديد حياة الآخرين ؛ لا يسلمُ من شرّهم غابرٌ أو قاطن ، فرد أو جماعة . وقد ازداد خطرَهم حينما انتقلَ أسلوبهم من الإطار الفردي إلى الأسلوب الجماعي ، مثلهم في ذلك مثل الذئاب والحيوانات المفترسة التي تهدد من هو ضعف منها " ([14])
وإذا كانت صورة الشاعِر يرمي للذئبِ قطعةً من زادهِ ، أو يعتذرُ لَهُ من قِلّة ، أو ما شابه قد وردت عند بعض الشعراء العرب ، فإنها عند الشعراء الصعاليك تصبحُ ما يشبه الطقس الحياتي ، وتصبحُ رمزاً للكرمِ وإيثار الآخر المتوحش على النفس ، تصبحُ أيضاً رمزاً للشجاعة ، فهاهو ذا شاعِرنا نفسه يمتدحُ شمسَ بن مالك على اقتسامِهِ الطعام مع الذئب ([15]) :
إذا خاطَ عينيه كرى النوم لم يَزَلْ
= لهُ كالئٌ من قلبِ شيحانَ فاتِكِ ([18])
ولا يتوقّف الأَمرُ عند اقتسام الزاد بل يرمي الصعلوك بنفسِهِ إلى مجتمع الوحشِ فاراً من مجتمع البشر ـ كما رأينا عند الشنفرى ـ وتنعقدُ أواصِرُ صداقةٍ " بين الذئبِ والصعلوك وكلاهُما حَذرٌ حديد القلب ، يقظٌ ما عاش ، وتصبح الألفة بينَهما أقرب من التآلف البشري في آمالها وآلامها " ([19]) كقول تأبّط شراً يتحدّث عن نفسِهِ وإخوانِهِ :
يبيتُ بمغنى الوحشِ حتى أَلِفْنَهُ
= ويُصبحُ لا يحمي لها الدَّهَرَ مَرْتَعَاً ([20])
على غِرَّةٍ أو جَهْرَةٍ من مُكَانِسٍ
= أطالَ نِزالَ الموتِ حتّى تَسَعْسَعَا ([21])
لقد أصبحَ الشاعرُ واحداً من هذهِ الوحش يبيتُ في بيوتِها ، ولا يمنعُ عنها مرعىً فأمنت إليه وقد رأتُهُ لا يرغبُ ، بل لا يفكّر في اصطيادِها ، وحتى أن الآدميَ إذا ما نظرَ إلى الوحوشِ والشاعرُ بينها ، ما مَيَّزهُ عنها ، ولو اقتربت من إنسيٍ مُصافحةً ، لكان واحداً منها ، يقتربُ من البشِرِ كفردٍ من بين الوحش !؛ إن هذه الحالة شاهدناها عند الشنفرى أيضاً ، يومَ أصبَحَ واحداً من الوعولِ وانضمّ إليها بشكلٍ نهائي . باتِراً كل صلةٍ بينَهُ وبينَ بني البشر .
*مالك بن الريب والذئب :
كانَ / مالك بن الريب المازني من الفتّاك اللصوص ، نشأ في باديةِ بني تميم في البصرة ، وهو من شعراء الإسلام في أوّل أيام بني أميّة . ومن القصائد التي كانَ الذئبُ موضوعاً أساساً فيها قصيدةٌ لهذا الشاعِرِ الفاتك ، قالها على ما يبدو قبلَ أن يَستَصْحبه سعيدُ بن عثمان بن عفّان إلى خُراسان . يروي صَاحب ُالأغاني أنّ مالك بن الريب كانَ نائماً في بعضِ مفازاتِهِ ، فأحسَّ بذئبٍ يحوّم حوله ، فزجَرَهُ ، فلم يزدَجر ، فأعادَ ، فلم يبرَح ، فوثبَ إليهِ بالسيفِ ، فضرَبهُ فقتله ، وقالَ قصيدته ([22]) :
أرى الموتَ لا أنحاشُ عنهُ تكرُّماً
= ولو شئتُ لم أركبْ على المركبِ الصعبِ
ولكن أبت نفسي وكانت أبيّةً
= تقاعَسُ أو ينصاعُ قومٌ من الرُعبِ
من الواضحِ تماماً أن هذا النص واحدٌ من نصوصٍ قليلةٍ جداً يُقدِمُ الشاعرُ فيها على قتل الذئب ، وكان من قبلُ ؛ وفي نصوص شعراء الجاهلية لا يَرى فيهِ إلا رفيقَ طريقٍ أو ضيفاً على زاد ، ضيفاً خطِراً ربّما ، ولكن لم يصل الأمرُ بأحدهم أن قتله كما فَعَل مالك وكما سيفعل البُحتُري بعدَ ذلكِ بزمنٍ طويل ، ورأينا أن بعض شعراء الجاهلية رأوا أنفسهم في هذه الذئاب الجائعة العطشى والشرسة ، وأحسّوا أنها ضحيّة قسوة الصحراء مثلهم تماماً ، فما الذي تبدّل ليقتلَ الشاعِرُ ذئبه . هل الأمرُ دليلٌ على تغيّر القيم الأخلاقيّة في الصحراء مع تغيّر المعتقداتِ المختلفةِ والعادات ؟ أتغيّرَ معنى الفروسيّة ومفاهيمها بينَ الجاهليةِ والإسلام ؟ أم أن الشاعر بدأ يبتعد عن الطبيعة فيعيش في البيوت الفارهة وقصور الخلفاء والملوك فانقطعَ تواصلُهُ مع البيئة ، وصارَ يستشعر الخطَرَ في حيواناتِها وكائناتِها على عكسِ الشاعر الجاهلي من قبله ؟
هي إذاً جملة من التساؤلات سنتركُ الإجابة عنها إلى خاتمة البحثِ بعد أن نتعرّفُ إلى نصوص أخرى قد تُغني الفكرة .
مالكُ بن الريب يُصرّح في بداية قصيدته أنّه لم يكن يرغب بقتل الذئب ، لقد زجره مَرّاتٍ ومَرّاتٍ فما ازدجر ، وظنَ بصاحبه ضعفاً ، وربّما فكّر بهِ كفريسةٍ سهلة المنال ، فإذا بالشاعِرِ يُضطرُّ لإثباتِ العكس ؛ إنّهُ " ضرغامٌ من الأُسدُ الغُلبِ "، وهو شديدُ الحذر واليقظة ، فنومُهُ خفيفٌ جداً ، وسيفُهُ دائماً ضجيعُهُ لا يبتعدُ عنه وبالتالي فقد جَعَلَ الذئب من نفسهِ أضحوكةً تفادى بها الركبانُ بسبب رعونتِهِ وتهوّرِهِ ، على أن للشاعر بالرغم من ذلك لم يُُقلّل من شأن خصمِه ـ على عادةِ كثيرٍ من الشعراء العرب القُدامى ـ فَوَصَفَهُ بالشجاعة وجرأةِ الجنان ؛ كي لا يجعَلَ من انتصارِهِ عليهِ أمراً بخساً ، ثُمّ استثمّرَ هذهِ الحادثة الواقعيّة ليتحدّثَ عن أيامِهِ وانتصاراته ( الأبيات: 7 ـ 12 )؛ فلو قُدِّرَ للذئبِ المقتول أن يشهد الغزوات ، التي غزاها الشاعِرُ الفاتك لهالَهُ مَنظَرُه ، وسطَ المعمعة ، ولرأى بطلاً يجولُ بسيفِهِ ذي الحدين بخيلاء ، غير حافِلٍ بالموتِ المُترّبص بهِ ، فيجندل الفرسان والكُماة ، ويعفّر وجوههم بالتراب ، فيهرُبُ من يهرب طائر القلب ، فيتعثّر ، ويقع ، وما إلى ذلك من المشاهد التي يصفها مُخاطباً الذئبَ القتيل ، والتي لا تضيفُ ـ على العموم ـ شيئاً جديداً إلى ما قرأناه عند عنترة العبسي وعَمْرو بن كلثوم وغيرهما من الشعراء الفرسان .
*الفرزدق والذئب :
هو / همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدرامي ، اشتُهِرَ بالفرزدق لغلظِهِ وقصِره . روى صاحبُ الأغاني ([25]) أن جد الفرزدق كان عظيمَ الشأن في الجاهلية ، وقد أحيا أكثر من ثلاثمئة موءودة من مالِه ، وأبوه غالب سيد بادية تميم وهو من الأجواد الأشراف ، أما الفرزدق فقد نشأ في قومِهِ شريفاً كريماً كأبيهِ وجدّه .
أوتيَ الفرزدقُ " حساسيّةَ شاعرٍ يعيشُ في الشعرِ ولا ينظمُهُ فقط، ولذلك امتازت قصائِدُهُ بالصدقِ والحرارة مع مضامين اجتماعيّةٍ مرتبطة بشخصيّة شاعر من طرازه . وكان عظيم الشأن في اللغة فقيل : لولا شعر الفرزدق لذهبَ ثلث لغة العرب ، ولولا شعره أيضاً لذهبَ نصف أخبار الناس ([26]) ".
توفي الفرزدقُ في بادية البصرة عام 110 للهجرة = 728 للميلاد عن مئة عام تقريباً ([27])
ذكَرَ الفرزدق الذئبَ وصَوّرُهُ في مشهدين مختلفين ، جاءً الأوّل في مقطوعة سينيّة مؤلفة من ستة أبيات ، والثاني ضمن قصيدةٍ طويلة مؤلفة من سبعة وأربعين بيتاً ، خَصَ الشاعر الذئبَ فيها بثمانية أبيات . وأعتقدُ أن الشاعِرَ في القصيدتين قَدّمَ مشهداً واقعياً واحداً ، أو بتعبيرٍ آخر نستطيع أن نكتشف أن خلفَ المشهدين الشعريين حادثة واحدة قُدّمتْ مرتين وبطريقتين مختلفتين نسبيّاً ، لنقرأ القصيدة الأولى ([28]) :
وكان ابنُ لليلى إذ قرى الذئبَ زادَهُ
= على طارق الظلماء لا يتعبّسُ ([33])
تقولُ الأبياتُ إن الشاعِرَ باتَ بالغريينِ ليلةً ، فضافَهُ ذئبٌ ممشوقُ الذراعين أغبر اللون إلى سواد ، ذئبُ فتيٌ تلمّسَ طعاماً ، فقادته حاسة الشمِ إلى الفرزدق ، وقد شرعَ بتناولُ طعامَه ، وحين نظرَ الشاعِرُ مليّاٍ إلى ضيفِهِ ـ وربّما كان الفصلُ شتاء ؛ أو هي ليلةٌ باردة ـ تمنّى لو يقتربُ الذئب قليلاً فيلبسهُ رداء ما يقيه البردَ والقر ، إن كان يقبَلُ بذلك ، لكنّه بقي بعيداً مسافةَ رُمحٍ عن الشاعر بعد أن دنى منه قبل ذلك قليلاً وابتعَدَ .
إذن الذئب جائع ولا غَرَضَ لهُ عند الفرزدق إلا الطعام ، فهل يزجرُ الرجل " طارقَ الظلماء " هل يعبسُ في وجههِ ويطرده ؛ لا ها هو ذا يقاسِمُهُ ما تبقّى من زاده بالعدل : أليسَ الفرزدَقُ ابن الكرامِ الذين اعتادوا أن يشتروا حياةَ الموءوداتِ ([34]) في الجاهلية ، واعتادوا على العطاءِ حتى قبلَ أن يَسألوا عن شخصِ صاحب الحاجة ([35]) ؟ ألم تكن كل هذهِ المكرُمات وسواها في ذهنِ الشاعر حين قَدّم لضيفِهِ نصفَ زاده ؟ وسيستثمر الشاعِرُ هذه الحادثة في الفخر ، فيرويها شعراً ويختمها ببيتين يبيّنان كرمَهُ الأصيل ، وتعاطفه مع هذا الذئب الفتي الجائع المقرور ، وقد سَبَقَ وأشار الناقدُ العراقي د . عناد غزوان إسماعيل إلى حِسّ الشاعِر الإنساني وحبّه لهذا الحيوان حين تمّنى في عجز البيت الثالث أن يلبسه شيئاً يقيهِ " بَرَدَ الشتاء وحَرّ الصيف " ورأى أن هذهِ الصورة " فريدة من نوعها في أدب الذئب عند العرب " ([36])؛ ونبّه إلى أننا أمامَ " خاطرة قصصّية ، فيها وحدة زمانيّة ومكانيّة وشخوص وملامح ، بيد أنها تفتقر إلى عنصري الصراع والحوار "، والناقد محق في ذلك ، ولقد لاحظنا أن اعتمادَ الشاعر أسلوبَ السردِ والحكاية جعَلَ لغته على غير عادتِهِ ـ بسيطة واضحة لا صعوبة فيها ، وهو المعروف بخشونة لغتِهِ ووعورتها في معظم شعِرِه .
في قصيدةٍ أخرى يعودُ الفرزدقُ ليقدّم لنا مشهداً آخر لذئبٍ أطلس يستضيفُهُ منتصفَ إحدى الليالي ، ولا نعلم هنا أي القصيدتين سبقت الأخرى ، في الظهور وهل كانت الأولى تدريباً ناجحاً على الثانية التي سنتناولها بعد قليل ، أم أنها جاءت بعدها ؛ وقد تذكّر الفرزدقُ الحادثة فنظمَ سينيّته تلك استدراكاً لشيء فاته ؟ هي مجرّد أسئلة لا أمتلكُ جواباً لها ، ولننتقل الآن إلى النص الثاني ([37]) :
علينا قبل أن نتحدّث عن المشهد الذي رسمته الأبيات السابقة أن نشير إلى أن الشاعرَ جعلها فاتحةَ قصيدةٍ طويلة متعددة الموضوعات ، وإن كان بالإمكانِ أن أردّها جميعاً إلى مقولةٍ واحدة ، أو فكرةٍ رئيسةٍ مسيطرةٍ على الشاعر ، يمكن أن أوجزها على لسان الفرزدق نفسه كما يلي : " ها أنذا بكل مجدي الطارفِ والتليد ، بكل شرفي وكرم محتدي ودور قبيلتي تميم في الجاهلية والإسلام ، بكل كرمي الذي نالت الوحش شطراً منه أُخْفِقُ في الحُبّ ، وتخذلني النوّار وتذلك كبريائي ، وتشين عرضي ، فتملأُ قلبي ألماً وهَمّاً ، وتعجّلُ شيخوختي ، فيبيَضُّ رأسي ويخُور عَزمي ، ويقربُ أجلي ، وبالرغم من كل ذلك لا أستطيعُ أن أهجوها ، وأقسو عليها وأقطع كل ما كان بيننا " والذي يؤكد وجهة نظري هذهِ الأبياتُ التاليةُ لمشهدِ الذئب مُباشرةً ، وهي برأيي بؤرة القصيدة ؛ لنقرأ :
وأَمْحَضِتِ عِرْضي في الحياة وشنتِهِ
= وأوقدْتِ لي ناراً بكلِّ مكانِ
فلولا عقابيلُ الفؤاد الذي بهِ
= لقد خَرَجت ثنتانِ تَزْدَحِمَانِ ([39])
ولكن نسيباً لا يزالُ يَشلُّني
= إليكِ ، كأني مغلقٌ بِرِهانِ ([40])
سواءٌ قرينُ السَّوْءِ في سَرِعِ البِلى
= على المرءِ ، والعَصْرانِ يختلفان ([41])
ولهذا ـ على الأغلب ـ رأينا مشهد الذئب يفتتحُ القصيدةَ ، وكانت نوّارُ من قبل قد ملكت عليه الكثيرَ من مطالِعِ قصائده حيث كانَ " يتغنّى بها ويحدو باسمِها الركب ليدفَعَ عنهم النُعاس ، ويذهب بذكرها خدرَ أعضائِه ، فعلَ العشّاق المتيمّين ، ويحنّ إليها إذا نأى ، ويطرقُهُ خيالُها في الصحراء البعيدة ، الموغلة في البعد ، فيشمُّ نفحات شذاها العطر ، وتتبدّل صحراؤهُ إلى جنّة " ([42])
فلماذا ابتدأ الشاعرُ القصيدةَ بالذئبِ هذه المرّة ؛ أما كان باستطاعتهِ أن يؤجّل هذا المشهد قليلاً ؟ ويسيرَ في قصيدتِهِ على عادتِهِ وعادة الكثيرين ، من شعراء عصره هل هي رغبة في التجديدِ ؛ وكسر عمودِ الشعر؟ أم أنّ شيئاً ما في أعماقِ الفرزدق جعلَهُ يستبدلُ بالذئبِ المرأةَ ـ النّوار ؟ هل أرادَ بذلك أن يشبهها بالذئبِ غدراً وخيانةًَ دون أن يصرّح ، وقد اشتملت الأبيات على هاتين الصفتين :
أم أن الشاعر لم يفعل ذلك عن وعيٍ وقصد ، والمسألة تتعلقُ بلا وعيه الذي استنبطَ هذهِ الوسيلة ، بعد أن منعه إحساسه بالحبِ نحوها و" عقابيل الفؤاد " من هجائها بشكلٍ مباشر . فجاءت القصيدة بالصورة التي نعرفَها : مشهدُ يصور ذئباً أغبر اللون ، لم يكن من قبلُ صاحباً ، يدعوه الفرزدقُ بناره ورائحة طعامه ، فيقبلُ جائعاً يعسِلُ ، ويقتربُ من الشاعِرِ ، الذي يبادِرهُ قائلً : " تعالِ وشاركني الطعام "، ويبدأ يقدّ الزادَ بينَهما ؛ تارةً على ضوء النار ، وأخرى على دخانها ، دون أن ينسى أن ضيفَهُ غَدّارُ شرس ، قد يفتك بهِ إن غفلَ عنه ، ولهذا فهو يرمي لَهُ الطعام بيد ، ويده الأخرى على مقبض سيفه ولا سيّما حين تغلبُهُ طبيعتُهُ الوحشيّة ، فيتكشّر وتظهر أنيابه .
وهنا يعود الشاعِرُ ليحاور ضيفه حاثاً إياه على تناولِ الطعام دون الغدر ؟ فلو كانَ التمسَ طعاماً من حيٍ آخر ، لما أصابَ إلا سهماً أو سنان رمح . يتلو ذلك مشهدٌ آخر يُقدّمُ فيه الفرزدق زوجته النّوار وصنيعَها به ، بعد حُبّه إيّاها ، وصراعِه من أجلها ـ من وجهة نظره طبعاً ([43]) ـ ويستغرق ذلك ستة أبيات ، ويأتي بعدها مقطعٌ يمتدّ ثلاثينَ بيتاً ، يفخرُ الشاعرُ فيه بنفسه وقبيلته ، وهو الغرضَ الذي استهوى الفرزدق واستأثرَ بنفسه ، فيجدُ في مساعي قومِهِ ومآثرهم ما يساعده على ذلك ، لكنّه يبالِغُ في ذلك ويبجَج .
وكان الفرزدقُ قَدْ وظّفَ حكايته مع الذئب بشكلٍ رائع في بداية شطر القصيدة المخصصِ للفخر فقالَ ممهّداً لغايتهِ بنجاح :
فَضَلنا بثنتين المعاشرَ كّلهم :
= بأعظمِ أحلامٍ لنا وجفانِ
فتصّوروا لو أن الشاعرَ في مشهد الذئبِ تصرّفَ على غير ما رأينا ؛ لو أنه نهرَ الذئبَ ، أو طردهُ ، أو رماه بسهمٍ ؛ هل كان يستطيع أن يقول ما قالَهُ في البيتين السابقين ؟، هل يستطيع أن يبني تلك المفارقة المذهلة بين إجارةِ قبيلته للوحشَ وحمايتها والدفع عنها ؛ حتى ترعى آمنةً بها ، وبين خوف الإنس والجن ورهبتهم من أهله حين يغضبون ؟ وهاهم يَفْضِلونَ بني جنسهم بشيمتين : غاياتهم ومآربهم السامية الجليلة ، وكرمهم النادر ، ومن جهةٍ أخرى هل كنا كقراء سنقبل منه ذلك ساعتئذٍ ؟! وأخيراً لابُدّ من الإشارة إلى أن مشهد الذئب في قصيدة الفرزدق مشهدٌ عضوي داخل جسد القصيدة ، ولا يمكن النظر إليه أو دراسته بشكلٍ منفصل وكنا قد رأينا الأمر نفسه في معظم القصائد السابقة ولاسيّما قصيدة الشنفرى وقد قام المشهدُ على حبكة قصصيّة بسيطة جداً ولكنها شائقة ، نفذّتها شخصيتان هما الشاعر والذئب ، وقد حاول الشاعِرُ أن يقدّم الذئب وكأنه كائن عاقل حين خاطبه قائلاً : " وأنتَ امرؤٌ ، يا ذئبُ والغَدْر كنتُما / أُخيين كان أُرضعا بلبانِ "، واستخدمَ بالإضافةِ للسردِ المجبول بالوصف حواراً بسيطاً ، قَدّم من خلالِهِ طبائِعَ الذئب ونوازِعهَ ، كما أضاءَ في الآن نفسه خصالَهُ هو وأراءه بشكلٍ غير مُباشر ، فإلى جوارِ قيم الكرمِ والشجاعة والعطف على الوحش الشرس ؛ رصَدَ الشاعِرُ قيمةً مهمّة ونبيلة قد لا يفطن لها كثير ممن يمرّون بالقصيدة ، مفادها أن الرحيل في الصحراء ـ وهي ما هي من قسوةٍ وعطشٍ وجوع وحَرّ ـ يجعَلُ رفيقي الدربِ صديقين حتى ولو كان قوماهما على حربٍ فيما بينهما ، فللحربِ والاختصام بين البشر شأن ، ولكائنين حيّين يعبران الصحراءَ مسافِرَين إلى مكان ما شأن آخر ، عليهما أولاً أن ينتصرا على هذهِ الغول العطشى إلى دمائِهما قبل أن يفكرا بغير ذلك :
هو / الوليد بن عبيد الله ، الطائي ، غلب عليه لقب البُحتري نسبةً إلى عشيرته الطائيّة " بُحْتُر "، ولد على الأرجح سنة 205 هـ ـ 822م وتوفي سنة 284 هـ ـ 898م .
لهُ قصيدةٌ طويلة تقعُ في واحدٍ وأربعينَ بيتاً ([44])، يجري فيها على عادة القُدماء ، في الحديث عن الأطلالِ وذكر المحبوبة التي " شَطّت بها النوى "، بعد أن أحبُها الشاعِرُ حُبّاً عظيماً دون أن تبادِلَهُ الحب والوصال ؛ ثُمّ يفَرغُ لغايتِهِ الأساس من القصيدة وهي الفخر بالنفس فتتالى الأبياتُ في ذلك ومنها قوله في وصفِ شجاعتِهِ وقوّتِهِ وجرأته :
ويلاحظُ القارئ أن مشهد الذئب جاءَ مُنسجماً ـ وفق رؤيا البحتري ـ مع ما سبقه من فَرْشٍ تمهيديٍ يصوّر فرادةَ الشاعِر شجاعةَ وجُرأةً وقوّة ، سواء كان للمشهد أساسٌ في الواقع أم أنّه وليدُ مخيّلةِ المبدع ؛ فالشاعِرُ يطلبُ من " سعدٍ " أن يقولَ لبني الضّحاك ([57]) : رويدَكم ، إنكم تتعاملونَ مع أبي عبادة البحتري ، مع رجل هو الأسدَ الجريء الشجاع ، هو الداهية من الحيّات . فلا يغرّنكم أنه ظريف وسمح لأنكم متى هجتموهُ فلن تَلْقَوا عنده وبهِ إلا الموت الزؤام ، ثُمّ يروي البحتري " لسعدٍ " ـ على الأرجح ـ ما كان من شأنِهِ في تلك الليلة حين خرَجَ إلى البيداء في اللحظاتِ الأولى بزوغ الصباح ، وكان ضوءه لا يزيد عن قطعةٍ صغيرةٍ من نصلٍ تبدو من الغمد ، وكان خروجه مغامرة بحد ذاته ، فالذئبُ لحظتئذٍ وسنان هاجع ولكنه غير نائمٍ ، شأنه شأن أبناء الليل من قُطّاعِ الطرق واللصوص وغيرهم ، ومُفاجآتُ الطريق لا يعلمها إلا الله غير أن الشاعر يضربُ في الفلاة بعزم فتثير خطواته طيور القطا الغبراء ، وتشعُرُ بهِ الثعالبُ والحيات فلا تنكِرُهُ ـ رُبّما لأنها اعتادت على خروجه سارياً ـ ثُمّ هاهو ذا الذئبُ الأطلسُ يبرزُ لَهُ . ذئبٌ ضخم ؛ عظيمُ الصدر والأطراف ، معوج الظهرِ ، وطويل لقد اعتاد الجوعَ ، فبلَغَ منهُ مبلغاً جعلَهُ جلداً على عظم ، كان منظرُهُ يملأُ عين الشاعِر ، وصوتُ اصطكاكِ أنيابِهِ وأسنانِهِ يصلُ واضحاً إلى أُذنيه كأنّه يرتعِشُ من البرد ، لكنّ الذئبَ ـ على ما يظهر ـ أخطأ العنوان فبالشاعر من شدّة الجوع ما بهِ ، لكأنَ قدرَ ساكن هذهِ البيداء أن يظل جائعاً ، وأن يرى فيما يعرض له فيها صيداً ؛ فمن حَالفَهُ الحظُ أوقَعَ بصاحبِهِ .
عوى الذئبُ حين شاهَدَ صاحبَهُ جيداً وجلس على قائمتيِهِ الخلفيتين ، بينما أبقَى الأماميتين منتصبتين ، فزجرهُ الشاعِرُ ، فما ازدجر ، بل انطلق نحوَهُ كالبرق ، ففوّق إليهِ سهماً نافذاً أشبه بالريح الهوجاء ، فما سقطَ أو ارتد ، فأتبعَ الشاعِرُ السهم بآخر انغرسَ في قلبِ المهاجمِ ، فأرداهُ قتيلاً ، ثُمّ جمَعَ ما يلزمُ واشتواهُ ، وأكلَ منه نزراً يسيراً ، تاركاً ما تبقّى منه معفّراً بالتُراب ، وخَتَمَ المشهدَ ببيتٍ جميل سيكون مدخلاً مُناسباً للغرض التالي من أغراض القصيدة . يقولُ البيتُ : " إن الليالي تحكمُ فينا بالظلمِ وبالجور ، وتلك عادةُ الأيام في قضائِها الأهوجِ العشوائي " وإلا فما معنى أن يشقى الرجلُ الكريم فيها ، ويتقدّمَ ويسعدَ الجبان اللئيم ، والبحتري ينتمي إلى الصنف الأوّل من الناس ، كما أرادَ لنا أن نفهَمَ من مشهد الذئب وما قبله ، ولهذا فسيغالب الدنيا ولن يقعُدُ عن طلب العُلا والثراء .
يمتاز مشهد الذئبِ في هذه القصيدة بلغتهِ الشعرية الوصفّية العالية ، الزاخرة بضروبِ البلاغةِ المختلفة ، لغة حركيّة جسّدت لنا المشهد وكأننا نراهُ أمامنا على شاشةٍ السينما ، فنقتنع بشجاعة الشاعِرِ وجسارتِهِ مع أن تاريخ الأدب ينكر عليه ذلك ([58])، وقد رأينا من قبلُ شاعراً كمالك بن الريب يُقْدِمُ على قتل ذئبة اتقاءً لشرّه ؛ لكننا هنا أمام شاعرٍ يقتلُهُ ويشتويه ثم يُصيبُ منهُ قليلاً ويترك الباقي للتُراب ، وإن كنتُ لا أوافق على ما رآه الناقد العراقي د . عناد غزوان إسماعيل من أن الذئب في هذه اللوحة " رمز للظلم "، وأراه ذئباً حقيقياً أو متخيّلاً توسَّلَهُ الشاعرُ بذكاء لتحقيق غاياتِهِ المعنويّة ، وما استطاع أن يرقى بهِ إلى مستوى الرمز ، لكنني أشاركُهُ بعضَ الرأي حين يقول : " لوحةُ البحتري تكشفُ عن بعض ملامح التغيير الاجتماعي والحضاري الذي طرأ على مفهوم الفروسيّة العربيّة ، فتحوّل فيها الشاعر من كونه فارساً ذا أخلاق سامية موروثة إلى كونه مقاتلاً ذا بأسٍ شديد في مواجهة عدوهِ وخصمِهِ المتمثّل هنا في صورة الذئب ." ([59]) فقد تغيّرت بالفعل مفاهيم كثيرة ؛ ومنها مفهوم الفروسيّة ، لكنّ السبب الأهم ـ فيما أظن ـ هو ابتعاد الشاعر العربي ـ عموماً ـ عن الصحراء وحياة الرعي والتنقّل والبداوة بشكلٍ عام بكل ما تعنيهِ من تماسٍ مباشر ودائم مع الوحشِ ومخلوقات الصحراء والبادية ، والانتقالِ إلى حياة الحَضر ، فالبُحتري مثلاً ولدَ في مدينةِ ( منبج )، وانتقل بين المُدن وصولاً إلى بغداد العظيمة ونال حظوةً عند الخليفة الواثق ؛ فالمتوكل من بعدِهِ ، فإذا ما قُتِلَ الرجلُ أمام عيني الشاعِرَ انتقلَ إلى المدائن وسامراء ، وأمراء مصر ، ثُمَّ عادَ إلى منبج . كل ذلك يجعل علاقة الرجل ـ وهو الحضري ـ بالوحشِ تختلف تماماً عن علاقةِ شاعرٍ كالشنفرى أو تأبط شراً بها ، هذا إذا افترضنا أن لهُ ومن الشجاعةِ الحَظَ نفسه !
هل تنتهي قائمة الشعراء الذين خَصّوا الذئبَ باهتمامِهم ، وشغَلَ شيئاً من شعرهم عند البُحتري ، بالتأكيد لا ، لكن لا بُدّ لي أن أتوقّف عند هذا الحد .
ولنحاول معاً ـ من خلال القصائد السابقة ـ أن نضَعَ جملة ملاحظات نوجز فيها إن استطعنا أهم الملامح الفنّية والمعنويّة في النصوص الخاصّةِ بالذئب :
1 ـ حَضَرَ الذئبُ في شِعرنا العربي القديم من العصر الجاهلي حتى العباسي وفق أربعة وجوه ؛ في الأوّل منها رأيناه يجيءُ تشبيهاً سريعاً ولا يستغرقُ أكثر من شطرٍ واحدٍ أو بيتٍ شعريٍ على الأكثر ؛ والأمثلةُ على ذلك أكثر من أن تُحصى .
وفي الثاني بدأ يظهَرُ بصورةٍ أكبر وأوسَع لإسباغِ وإبرازِ بعض القيمِ في المدح أو الهجاءِ كما فَعَلَ أبو كبيرٍ الهذلي حين رثى رجلاً راسماً شطراً من حياتِهِ وهو يردُ الماءَ مع الذئابِ ([60]):
ولقد وردْتَ الماءَ لم يشرب بهِ
= بينَ الربيعِ إلى شهورِ الصَّيِّف
إلا عواسِلُ كالمِراط مُعِيْدةٌ
= بالليل مَوْرِد أيّمٍ مُتغضِّفِ ([61])
يَنسِلنَ في طُرُقٍ سباسِبَ حولَهُ
= كقداحِ نبلِ مُجَبِّرٍ لم تُرْصَفِ ([62])
تعوي الذئابُ من المجاعة حَولَهُ
= إهلالَ ركبِ اليامنِ المتطوِّفِ
" فمشهد الذئب ـ هنا ـ يُظهِرُ حياة المرثي الذي قاسم الذئاب حياتها وشاركها قسوة البادية التي ضنّت بالطعام على أهلها ." ([64])، وقد رأينا الأمر نفسه في مدحِ تأبّط شراً شمسَ بنَ مالك لاقتسامِهِ الطعام مع الذئب .
وفي الوجه الثالث خَصّ الشاعرُ الذئبُ بجزءٍ أو مقطعٍ من قصيدةٍ طويلة : كما رأينا عند المرقّش الأكبر والشنفرى وتأبّط شراً وكعب بن زهير والفرزدق والبُحتري ، أما في الوجه الرابع فقد خَصّ الشاعِرُ الذئبَ بنصٍ خَاصٍ قصيرٍ أو قطعة مستقلّة كما رأينا في سينيّة الفرزدق ، أو بقصيدة كاملة كما كان الأمرُ عند حميد بن ثور الهلالي ، أو عند الشريف الرضي في قصيدةٍ عينيّة تقعً في سبعة عشر بيتاً ومطلعها :
2 ـ لاحظنا في المشاهد التي درسناها كافةً أن الشعراء استخدموا ـ بطريقةٍ أو بأخرى ـ أساليبَ السرد والقص ؛ وبحبكاتٍ بسيطةٍ على الأغلب ، لكن بشيءٍ من التنوّعِ فاستخدمَ مُعظمهم ضمير المتكلم وهو يسردُ حكايتُه ؛ كما فعل المرقُش الأكبر في مقطوعتِهِ وقصيدته ، ومالك بن الريب ، والبُحتري ، وكان كل من هؤلاء بطَلَ قصتِهِ بينما قَدّم الشنفرى قصته على لسانِهِ ؛ أي باستخدام الضمير نفسه ، لكن دون أن يشارِكَ في الحدث ، لقد لعبَ ـ ما يشبه اليوم ـ دورَ الراوي العليم ببواطن الأمور ، وجاءت حكايةُ الذئاب كنصٍ مستقلٍ يُدخِلُهُ المبدعُ في جسدِ النص الرئيس ، أو كحكايةٍ صغيرة تبزغُ في رحم الحكاية الكبيرة ، وفي هذا السياق أيضاً انفردت لوحَةُ حميد بن ثور الهلالي بتقنية مختلفة عن سابقاتها ؛ فقد جاءت على لسانِ راوٍ بعيدٍ لا علاقةَ لَهُ بالمشهد ، راو متخفٍ لا نعرف عَنهُ شيئاً يروي قصةَ ربّةِ قطيعٍ تتغلبُ بحرصِها ويقظتها على ذئبٍ يُريد أن يقتنصَ واحداً من صغار قطيعها ، ويظل الأمرُ ملتبساً حتى مشارف نهاية القصيدة حين يفجَؤنا الشاعرُ بالبيت الذي يقول :
ونمتَ كنومِ الفهدِ عن ذي حفيظةٍ
= أكلتَ طعاماً دونَهُ وهو جائع
فيقلب الأمر رأساً على عقب ؛ ونفهم عندها أن الراوي إنّما يحدّثُ نفسَهُ من البداية مستعيداً أحداث حكايةٍ ما كان شاهداً عليها ، بمعنى أن النصّ كُلّه من البداية إلى النهاية هو أشبه بمونولوج داخلي ، وإن صدقَ اجتهادي هذا فسنكون أمامَ نصٍ شعريٍ متقدّم سواهُ من هذه الناحية ، أو هو متجاوز فنياً وتقنياً لمرحلتِهِ الزمنيّة . كما استخدمَ معظم الشعراء المذكورين بعض أشكالِ الحوار في نصوصهم ونوّعوا في خواتيمِ حكاياتهم المسرودة ؛ بين شاعرٍ يُلقى لضيفهِ حُزّةً من شوائِهِ فيعودُ بها جذلاً ، إلى آخر يطلبُ منهُ أن يقتربَ ويروحُ يقد الزادَ بينهما ، إلى ثالثٍ يزجرُهُ فلا يزدجر فيضربُ متنَهُ بالسيف ، إلى رابعٍ يُعالجِهِ بسهمٍ كأنَّه الريح الخرقاء ، فلا يتراجَعَ فيتبعُهُ بآخر ثُمَّ يشتويه ، ويأكل منهُ شيئاً ويرمي الباقي ، إلى خامسٍ يرافقُهُ في وادٍ موحشٍ مظلمٍ كجوف العير ثُمَّ لا يجد مَعُهُ ما يلهيهِ به إلا فَردةَ حذائه . وما إلى ذلك من الخواتيم المختلفة ، التي قد تخرج مشهَدَ الذئبِ من الرتابةِ والتقليد .
3 ـ تفاوتت مواهبُ الشعراء الذين درسناهم في التعامُلِ فنّياً مع ذئابهم ، وفي دمجِ مشهد الذئبِ في جسد القصيدة الطويلة والحفاظ على وحدتها ـ فيما لو تحدّثنا عن القصائد الطوال ـ لكننا في الأحوال كلها لا يمكن أن ننظر إلى لوحةِ الذئبِ على أنّها مجردّ غرضٍ من أغراضِ الشعرِ العربي القديم يُدخلُ في بابِ وصفِ الطبيعةِ ومخلوقاتها المختلفة ، وانطلاقاً من هذه الرؤيا حاولتُ أن أثبت أن مُعظم المشاهد السابقة لم تكن إلاَّ صوراً سطحيّة تخفي خلفها صوراً أكثر عُمقاً قد تختلف في موضوعها ، ولكنها الأقرب إلى حقيقة عاطفة الشاعر ووجدانه ، وبعبارةٍ أخرى يمكن أن أقول : إن مشهد الذئب في القصائد السابقة ـ هو مشهدٌ مستمدٌّ من البيئة العربيّة الصحراوية ـ لم يكن إلا موضوعاً شعريّاً وظّفَهُ الشاعرُ القديمُ ليعبِّر من خلالِهِ عن مشكلاتٍ مؤرّقة وكبيرة في حياتِهِ وحياةِ بني جنسه ، وهل كان ذئبُ الشنفرى " الأزلُ الأطحَلُ " إلا مُعادلاً شعرياً خارجيّاً لشخص الصعلوك الخليعِ الباحث عن الأُنس والصحبة في عالم الوحش ؟ وتلك الزُمرةُ من الذئاب " المُهلهلةِ المهرّتةِ الفوهِ " في سلوكها الطافِح حُنّواً وإحساساً بصاحِبها أليست مُعادلاً خارجيّاً مجازيّاً لزمرة الصعاليك التي طالما أحاطت بالشنفرى ؟
وذئبُ الفرزدق الأطلسُ العسّالُ ، هَلْ بقيَ مُجرّدَ ذئبٍ من لحمٍ ودمٍ يسمو للشاعر موهناً فيكرمُه ، أم أنه أصبَحَ شيئاً آخر تماماً حين قفزَ إلى مطلع قصيدةٍ عظيمة فأزاحَ المرأةَ ـ النّوارَ إلى الخلفِ قليلاً وتصدّر النص ؛ ولماذا سَمَحَ الشاعرُ للذئب أن يفعلَ ذلك ؟ أما كان باستطاعتِهِ أن يؤجِلَ مشهدَ الذئب قليلاً ـ كما فَعَلَ البُحتري ـ فيتحدّث عن أطلال النّوار ودارها المقفرة ، وغدرها وخذلانها الشاعر ، ثُمّ يعود إلى مشهد الذئب ؟! هل كانَ الفرزدق ينظرُ إلى ضيفهِ الغريب ويفكّرُ بالنوار؟، هل كان يصفِهُ بالغدر ، ويطلب منه ألا يخونه وهو يتذكّر أفعّال النوار؟ أنا أرجّحُ كل هذا ولا أرى الذئب إلا وسيلةً فنيّةً أو رمزاً استخدمَهُ الشاعر عن وعيٍ ، أو بفعل موهبةٍ عظيمةٍ وجهتها روحٌ مخذولة عن غير قصد .
4 ـ امتلك كل مشهدٍ من المشاهد السابقة خصوصيّة لافتة ميّزته من سواه وإن كنا نقعُ على بعضِ الصيغ المتشابهة ، التي أخذها هذا الشاعِرُ عن ذاك ، ونستطيع أن نرصدَ مُعجماً خاصاً في وصف الذئب من خلال المشاهد السابقة سواء ما يتعلق بلون الذئب أو حركتِهِ أو سوى ذلك ([66]).
5 ـ استطاعت المشاهد السابقة التي امتدّت زمنياً منذ الجاهليّة حتى أواخر القرن الثالث الهجري أن ترصدَ شيئاً من تغيّر بعض المفاهيمِ التي كانت سائدة ؛ كمفهوم الفروسيّة والشجاعة والكرم وما إلى ذلك .
([1]) أنظر : محمّد مهدي الجواهري ، الجمهرة ، الجزء الأوّل ، السابق ، ص 96.
([2]) نفسه ، ص 96.
([3]) الموسوعة الشعريّة ، الإصدار الثالث ، الإشراف العام محمد أحمد السويدي ، المجمّع الثقافي / الإمارات العربية المتحدة 2003.
([4]) الخليع : الذي خلعه أهلُهُ ، فإن جنى لم يُطْلَبوا بجنايته ، وإن جُنيَ عليه لم يَطْلَبوا به . المُعيَّل : ذو العيال .
([5]) زيزاة : الأرض الغليظة ـ تعجُّ : تصوت ـ القَوا : القواء ، الأرض لا أهل بها ، أقوت الدار : خلت يُرمل : ينفد زادُه ويفتقر ، المُرمل : الذي لا زادَ معه .
([6]) الحَرْثُ : الكسبُ والجمع ، وبه سميَّ الرجلُ حارثاً ، ويقال أيضاً حَرَثَ ناقتَهُ وأحْرَثها : أي هَزَلها ، ومن ذلك قول الأنصار لمّا قالَ لهم مُعاوية : ما فَعَلتْ ناضِحُكْمْ ؟ قالوا : أحرثناها يومَ بدر .
([7]) طوى كشحاً : أعرضَ عن الحي بودّه ـ كلاّب : صَاحب الكلاب وسائِسُها .
([8]) السِّبت : الجلود المدبوغَةُ .
([9]) أنضو الملا بالشاحب المتشلشِلِ : أي أقطَعُ البيداء بثوبٍ شاحب اللون مهلهل بالٍ .
([10]) الأبلخَ : المتكبّر الفاجر ـ العِطف : عِطفُ كل شيء : جانبه ، وهو من الإنسان من لدن رأسه إلى وركه .
([11]) التلّة : قطيع الغنم ـ الغُرْنيق : طائرٌ أبيض يشبه الكركي ـ المُرسِّل : كثير اللبن .
([12]) ديوان حاتم الطائي ، تحقيق عادل سليمان جاسم ، مصر ، 1975، ص 92/نقلاً عن د . حسين جمعة ، الحيوان في الشعر الجاهلي ، دار دانية ، دمشق ، 1989، ص 36.
([13]) العَقُور : الكلبُ الشرس ـ شَقّ عليه : صعب عليه . هَرَّ الكلبُ : نبحَ وكشّر عن أنيابه .
([14]) د . حسين جمعة ، الحيوان في الشعر الجاهلين سابق ، ص 100.
([15]) ديوان تأبّط شراً 150 وبعد ، وهو في شرح ديوان الحماسة ( المرزوقي ) 1/92 وبعد ، والتبريزي 1/22 ـ 23 ـ نقلاً عن د . حسين جمعة ، المصدر السابق ، ص 103.
([16]) الحوايا : الأمعاء والبطن ؛ كناية عن الصخور العربُ تمتدحُه ، وقَسْمَ المُشارك : كناية عن إلفة للوحش / انظر : د . حسين جمعة ، المصدر السابق ، ص 103.
([17]) الجحيش : المنفرد ، ـ يعروري : يركب ، وقد جعلَ الشاعر للمخاطِر ظهوراً تمتطى / المصدر السابق ، ص 103.
([18]) الكرى : النوم الخفيف . وخاطَ عينيه : أي يمرّ فيهما النوم سريعاً ؛ والذئب يراوح بينهما إذا نامَ ، فيجعل إحداهما مطبقة والأخرى مفتوحة حارسة ( ثمار القلوب 390) ـ الكالئ : الذي يدفع الخطر ـ الشيحان : الحذر الحازم الفاتك : الشديد / عن المصدر السابق ، ص 103.
([19]) د . حسين جمعة ، المصدر السابق ، ص 103 ـ 104.
([20]) مغنى الوحش : منازِلُها ـ لا يحمي لها مرتعاً : لا يمنعُ عنها موطن الكلأ والمرعى .
([21]) مُكانِس : ملازمٌ لكناسِه ـ أطالَ نزاتل الموتِ حتّى تَسعسَعَ : كِبَرَ حتى هَرِمَ وبليَ من الحرب والنزال .
([22]) الأصبهاني ، الأغاني ، الجزء الثاني والعشرون ، دار إحياء التُراث العربي ، بيروت ، ص 295 ـ 296.
([23]) نهنهتُ : كففتُ .
([24]) الزرّين : الحدّين ـ عَرْضَنَةً : أي أمشي بقوة وثبات .
([25]) الأغاني ، سابق ، ج 21، ص 276.
([26]) محمّد مهدي الجواهري ، الجمهرة، سابق ، الجزء الثاني ـ القسم الثاني ، ص 398.
([27]) الأغاني ، سابق ، ج 21، ص 324، وخزانة الأدب : 1/105.
([28]) محمّد مهدي الجواهري ، الجمهرة ، سابق ، الجزء الثاني ، القسم الثاني ، ص 427.
([29]) الغريين : واحد الغري من أسماء النجف ، الأطلس : الذئب الأمعط في لونه غبرة إلى السواد .
([30]) كان دانياً : يقصد لو أن الذئب اقتربَ بشكلٍ كافٍ .
([31]) قيد الرمح : مقدار الرمح .
([32]) الركايب : الركائب ، الإبل .
([33]) طارق الظلماء : الضيف الذي يأتي في الليل ، ابن ليلى : يقصدُ الشاعر نفسه .
([34]) كان جد الشاعر صعصعة بن ناجية لا يسمَعُ بموءودةٍ إلاَّ فداها ، فجاءَ الإسلامُ وقد فدى ثلاثمئة موؤودة ، وقيل أربعمئة / أنظر الأغاني ، الجزء 21، ص 276 ـ 277.
([35]) روى صَاحب الأغاني أن صعصعة والد الفرزدق أعطى مئة ناقة وراعيها ثلاثةً من الرجال دون أن يسألَ عن أسمائهم ونسبهم / الأغاني ، الجزء 21، ص 281 ـ 282.
([36]) د . عناد غزوان إسماعيل ، سابق ، ص 94.
([37]) ديوان الفرزدق ، كرم البستاني ، المجلد الثاني ، دار صادر للطباعة ودار بيروت ، بيروت ، 1966، الصفحات 239 ـ 332.
([38]) الأطلس : الذئب الأمعط، في لونه غبرة إلى السواد ـ العّسال : المضطرب في مشيتِهِ ـ موهناً : ليلاً .
([39]) العقبولة : بقّية العِلّة ، أراد هُنا بقايا الحب ـ وأرادَ بالثنتين : قصيدتي هجاء أو ما شابه .
([40]) مغلقٌ برهانِ : أي كأنَّهُ من خيل السباق .
([41]) أراد أن يقول : إن قرين السوء يهدّ الجسم ، ويفلّ العزم ويعجّلُ في البلى كفعل الزمن بنهارِهِ وليلِهِ المتعاقبان .
([42]) د . شاكر الفحّام ، الفرزدق ، دار الفكر ، دمشق ، مغفل التاريخ ، ص 150.
([43]) للفرزدق حكاية طويلة مع النّوار ابنة عَمّه تبدأُ عندما خَطَبها رجلٌ من بني عبد الله بن دارم فرضيته ، وأرسلت إلى الفرزدق تطلب أن يزوّجها هذا الرجل ، فقال : لا أفعل أو تشهديني أنكِ قد رضيت بمن زوّجتك ، ففعلت ، فاستغلَ ثقتها به وأعلن في الحفل أمام الناس انه زوجها نفسه على مئة ناقة حمراء سوداء الحدقة . فنفرت وأبت منه هذا الغدر ، ولجأت إلى عبد الله بن الزبير بمكة ، فاستجارت بامرأتِهِ ، وطاردها الفرزدق ، وهجا من أعانها وحملها ، وعادَ بها أخيراً ـ يُنظَر : الأغاني ، الجزء الحادي والعشرون ، سابق ، ص 286 ـ 403. وينظر : الفرزدق ، شاكر الفحّام ، سابق ، ص 145 ـ 158.
([44]) ديوان البحتري ، تحقيق وشرح وتعليق حسن كامل الصيرفي ، المجلد الثاني ، دار المعارف بمصر ، القاهرة ، 1963، الصفحات 740 ـ 745.
([45]) الخرق من الفتيان : الظريف في سماحةٍ ونجدة .
([53]) أقعى : جلس على مؤخرته . ارتجزً : رفَعَ صوته ، ويقال ارتجزَ الرعد أي سُمِعً صوته متتابعاً ، وربّما قصد الشاعر أنه أنشدَ شيئاً من الشعرِ على الرجز بصوتٍ عالٍ .
([54]) فأوجزتُهُ : طعنتُهُ ـ خرقاء : أراد هنا سهمَاً ، والخرقاء هي الريح التي لا تدوم على جهتها في هبوبها .
([55]) نلتُ خسيساً : أي قَدْراً قليلاً ـ المنعفر : المُمرغ بالتراب .
([56]) ليس لَهُ قصد : يقصد ليس عادلاً ، بل يميلُ عن الحق باتجاه ما ، أو هو عشوائي لا اتجاه له .
([57]) بنو الضحّاك : قوم الحسن بن رجاء بن أبي الضحّاك الذي هجاه الشاعر عند وثوبِ علي بن اسحق بن يحيى ـ وكان على المعونة بدمشق ـ برجاء بن أبي الضّحاك وكان على الخراج ( راجع الطبري أخبار سنة 226 هـ ) / نقلاً عن حسن كامل الصيرفي ، سابق ، ص 471.
([58]) ينظر : " من كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر "، تصنيف علي بن الحسين المسعودي ، السفر الثالث اختيار وتقديم قاسم وهب ، وزارة الثقافة السورية ، دمشق 1989، ص 187 ـ 196، والأغاني الجزء الحادي والعشرون ، سابق ، ص (37 ـ 53)؛ وغيرهما من المراجع .
([59]) د . عناد غزوان إسماعيل ، مجلّة المورد ، سابق ، ص 97.
([60]) ديوان الهذليين ، الدار القوميّة للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1965، ص (105 ـ 106).
([61]) العواسل : يقصد الذئاب ـ الأيّم : الأفعى ـ المتغضّف : المتثنّي ، المنطوي ـ المُعِيدة : التي تعاود الشراب المرّة تلو الأخرى ـ المراط : النبل المكسوة ريشاً .
([62]) اليامن : الذي يجيءُ من اليمن .
([63]) الزّقبُ : الضيّق ، والمكانُ المعورُ لا يُهتدى فيه ـ الاستئنانُ : العدوُ السريع ـ الأخلفُ : العَسِر ، المُخالفُ المعوَجُّ كأنهُ يمشي على شقٍّ .
([64]) د. حسين جمعة ، الحيوان في الشعر الجاهلي ، ( سابق )، ص (98 ـ 99).
([65]) ديوان الشريف الرضي ، المجلّد الأوّل ، دار صادر ، بيروت ، 1961، ص (661 ـ 662).
([66]) ينظر : د . عناد غزوان إسماعيل ، المورد ، سابق ، ص (101 ـ 102).
اخواني الكرام / أعضاء ومتصفحي منتديات قبيلة سبيع بن عامر الغلباء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : اليكم ماكتبه أحد النابهين من أبناء قبيلة بني تميم حول الفرزدق معشي الذئب : هل تعلم من هو ذلك الرجل ( معشّي الذيب ) ؟ يطلق هذا اللقب على أكثر من شخص وكلهم حصل لهم موقف مع الذئاب وعرفوا بذلك ، شعبياً وهم : أول من سمعت أنه لقّب بـ( معشي الذيب ) هو : الشيخ / محمد بن سعد بن شعيفان السبيعي رحمه الله . والشيخ / مكازي بن سعيد العليان الشمري من حايل رحمه الله ، ويقال أن حفيده هو من تسمى بتلك التسمية ، ووجدت أن أكثر أهل الشمال يعرفونه بتلك التسمية وكلهم خليق بما اتّصف به ، ولكن هل فعلاً هم أول من عشّى ( الذيب ) ؟ أم يوجد من فعلها قبلاً ؟ في الحقيقة كان هناك من عشّى الذئب قبلهم وأطعمه من زاده وقاسمه طعامه وأمّنه وقال في ذلك قصيدة يمتدح فعله ويصف موقفه من الذئب ، وهو من قبيلة بني تميم و تعرفونه جيّداً وهو : الشاعر الكبير معشّي الذيب ( الفرزدق ) أبو فراس ؛ همّام بن غالب المجاشعي الدارمي الحنظلي التميمي ولكم قصديته التي يقصّ عليكم فيها قصّته :
وأسوق لكم قصة قصيدته حسب معاني الأبيات بتحليلي الشخصي المتواضع جدّا . حيث ابتدأ بذكر الذيب ( أطلس تعني الذئب الأغبر ) ، وكان عسّالاً ؛ و عسّال تعني المشي الخفيف وهو ما يسموه هنا أحياناً هرف الذيب ، وأنه ليس يعرفه وأنه ليس بصاحب يتّخذ فليس الذئب صديقاً لأنه عرف بالغدر وإن امتدحه البدوّي لنباهته واحتراسه وشراسته ، وذلك حينما أوقد ناره في منتصف الليل فأتاه الذيب ، وقوله ( دَعَوتُ ) أحسّ أن فيها نوع من الإفتخار بصفة الكرم فوصفه أنه يوقد النار في الليل يدعو ، أي ينتظر أي ضيف أو أي أحد ليجعله ضيف ناره . يقول : ( فلما دنا قلت ادن دونك ) أي فلما قرّب الذئب لم ازجره ولم ارده فكأنني باقترابه قلت له ادن قريباً مني ولاتخف فأنت في أمان فأصبح الذيب ضيف الفرزدق على ناره . وقام شاعرنا الفرزدق إلى زاده ( طعامه ) وأخذ منه ، وقسم بينه وبين الذيب قسمتين متساويتين ، وذلك من اعتباره الكامل لضيفه ولو كان ذئباً . ولكن كانت هذه الضيافة محفوفة بالمخاطر وإن رغب بها الفرزدق فقد كان شاهراً سيفه يقول : ( وقائم سيفي مني بمكان ) وكلّ هذا فعله عند رؤيته للذئب ورآه كأنما يضحك ضحكة غامضة فهي كما قال تكشيرة ثمّ ضحكة و هذا يكشف أن تحذّر الفرزدق الشديد من الذئب . وبرغم هذا الجوّ أبى إلا أن يكرم ضيفه قائلاً : ( تعشّ ) وأخذ يخاطبه بمافي نفسه أنه لو عاهده بألايغدر فيه أو يخون وأوثق الفرزدق من حسن تصرفه فإنهما سيصبحان كأي اثنين يصبحون اصحاباً كأنما يقول له : لاتسئ التصرف فقد نستطيع أن نتصاحب و هذا عكس المفترض من الذئب . ويتّضح هذا من وصفه للذئب في البيت الذي يليه حيث يقول : ( وأنت امرؤ ياذئب والغدر كنتما ، أخيّين كانا أرضعا بلبان ) و وصفه بـ ( امرؤ ) وهذه ترقية للذئب لمنزلة العاقل وذلك لمخاطبته إيّاه ، وتأتي امتداداً للمعنى الذي أراده منذ بداية قصيدته وهو إقرائه للذئب وضيافته له كأي ضيف طارق ، فوصفه مع ذلك بطبع الغدر المتمكن منه ، وشبهه بالاخويين الذين رضعا اللبن من درٍ واحد . وأخذ يذكر للذئب تفرده وكرمه عليه وفرقه عن غيره من الناس بأنه ( أي الذئب ) لو ذهب لأحد غير الفرزدق لما وجد هذه الضيافة ( القِرَى ) وسيجد بدلاً عن هذا اناساً يقتلونه فقال : ( أتاك بسهم أو شَبَاةِ سِنَانِ ) وشباة سنان معناه حدّ الرمح . وبين للذئب بعد هذا أن كل من ترافقوا في السفر وتصاحبوا هم أخوة وأصحاب ولو أن قوميهما متحاربين و المقصد هو الودّ المتبادل بينهم وهذا مايفترض بالذئب حفظه للفرزدق حسب معنى كلامه . وللقصيدة بقية فهي في أربعين بيتاً بعد هذه الأبيات فيها افتخار بقبيلته ، وتذكر لأبي فراس الفرزدق قصيدة أخرى عن ذئب عرض له وكان مع شاعرنا الفرزدق شاة مسلوخة ، فأخذ يرمي له من الشاة حتى شبع الذئب و ولّى ، فقال الفرزدق :
وَ كَان ابْنُ لَيلَى إِذ قرى الذِّئْب زَاده
= عَلَى طَـارِق الظَّلْمَـاءِ لا يَتَعبـس
وقد أبدع أبو فراس في قصيدته ( و أطلس عسال ) وأجاد أيما إجادة وامتدح في آخؤها قبيلته ( من البيت 18 ) ، ولعلكم حين تقرأونها كاملة تعرفون هذه الرائعة ، فرحمك الله يافرزدق وغفر لك . فهل عرفتم الآن من هو معشّي الذيب الأول ؟ اذا الذئب لايستانس مثل النمور والاسود وبقية السباع وطبيعته الخداع منقول بتصرف وأنتم سالمون وغانمون والسلام .
أخي الكريم / حزم الجلاميد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : شكرا جزيلا لك على مرورك الكريم بالشعراء والذئب والله يعافيك ويبارك فيك ويجزاك خيرا مع خالص التحية وأطيب الأمنيات واسلم وسلم والسلام .